بشرى فيصل السباعي

اعرف نفسك أو أحب نفسك

الأربعاء - 28 فبراير 2024

Wed - 28 Feb 2024

«اعرف نفسك» عبارة كانت منحوتة على المعبد الرئيسي في مدينة دلفي في اليونان القديمة، وصارت بسببها شعارا للفلسفات بأنواعها العقلية والروحية، وتفيد حث الإنسان على الوعي بالذات واكتساب كل المعارف اللازمة ليعرف ذاته حق المعرفة.

كان هذا الشعار محور وحجر أساس تطوير الذات، لكن كل هذا التراث نسفته أدبيات تطوير الذات الحديثة السطحية في العقود الأخيرة والتي باتت تركز على تغذية نرجسية الإنسان، مع العلم أن النرجسية في تراث «اعرف نفسك» تعتبر من الكبائر التي يجب التخلص منها؛ لأنها تدل على أن الإنسان لم يتطور بما يكفي ليتجاوز التمحور الطفولي حول الأنا الغرائزية النرجسية الأنانية؛ فكل الأطفال الصغار أنانيون لكن التعليم الاجتماعي يدربهم على أهمية تجاوز الأنانية المطلقة بمراعاة الآخرين.

لكن أدبيات التنمية الذاتية عندما تطفل عليها من ليس لديهم منظور معمق جعلوها تتمحور حول خدمة نرجسية الإنسان؛ ولذا شعارها صار «أحب نفسك» ووراء هذا الشعار تعاليم بالغة الضرر تعيق نمو وتطور الإنسان الحقيقي الجوهري بما يتجاوز الأنا الغرائزية؛ لأنها تخبر الناس أنهم يجب أن يحبوا أنفسهم كما هي مهما كانت فيها من عيوب ونواقص بدلا من الدعوة للسعي وراء الكمال وحبه الذي يجعل الإنسان يمحص حقيقته وصفاته وأخلاقه وسلوكه ومعاملته ويلزم نفسه بالمثاليات العليا، وهذا لا يكون فقط في صالح الإنسان وحده إنما في صالح الأهل والمجتمع والعالم.

بينما الدعوة لأن يحب الناس أنفسهم كما هم ويفرضوا على الآخرين تقبلهم بكل عيوبهم ونواقصهم التي تسبب الأذية والضرر للآخرين هي دعوة لترسيخ النرجسية السامة الضارة وتحرم الأفراد من تحقيق الغاية من الوجود في الخبرة الدنيوية من الأصل وهي تنمية وتطوير وتكريس الذات العليا جوهريا، ووسائل الدعاية والإعلام والإعلان والمواد الترفيهية تبنت شعار أحب نفسك النرجسي بشكل كامل وهذا ظلم للأجيال الجديدة التي لا تعرف ما يتجاوز فقاعة تلك الثقافة النرجسية السطحية، والآباء والأمهات أكثر من يعاني من تبعات النرجسية المتضخمة لدى الأجيال الجديدة التي تجعلهم مهما تقدموا في العمر يبقى لهم مستوى نضج شخصية المراهقين؛ لأنهم فعليا لم يقوموا بأي تطوير جوهري لشخصياتهم؛ ولذا الأفضل الرجوع إلى مواد التنمية الذاتية الأقدم أو تلك التي يؤلفها متخصصون في علم النفس ومبنية على الدراسات العلمية بدلا من تلك الرائجة التي تغذي نرجسية القراء وتعيق نموهم الحقيقي الجوهري.

مبدأ حب النفس ليس بفضيلة إنما غريزة توجد مسبقا في الإنسان، ومن الطبيعي أن الإنسان يشعر بشعور سلبي تجاه نفسه إن كانت فيها أحوال سلبية أو إنه لم يحقق ما يمنحه الشعور بالرضا عن النفس، وهذا الشعور بالاستياء هو إيجابي وضروري لدفع الإنسان لمحاولة علاجه عبر إصلاح الأسباب التي ولدته، ومثال واضح على أضرار حركة «أحب نفسك» هو في تبني بعض البدينين هذا الشعار وصاروا ناشطين في جعل البدينين يحبون بدانتهم حتى صار هناك عارضو أزياء من البدينين وبعض أشهر الماركات العالمية للملابس جعلت البدينين نجوما لحملاتها الإعلانية من باب تأكيد تبنيها شعار أن يحب الإنسان نفسه مهما كان حاله، والنتيجة أن أبرز الناشطين فيها وأشهر عارضات الأزياء البدينات ماتوا في سن الشباب بسبب الأمراض الناتجة عن البدانة.

تضخم نرجسية الإنسان تجعله يتكبر على العمل ويفضل البطالة إن لم يجد وظيفة ترضي غروره، والطبائع والتصرفات النرجسية تسبب كثرة الطلاق، بينما في الفلسفات الروحية معرفة الذات العميقة هي الطريق لمعرفة الرب سبحانه، كما تقول الحكمة الذهبية «من عرف نفسه فقد عرف ربه» السيوطي، تدريب الراوي: 2/167.

معرفة الإنسان المعمقة بذاته تقوده إلى إرادة المعرفة المعمقة في كل المجالات وعلى رأسها معرفة ربه، وفي الصحيحين «خلق الله آدم على صورته» وفي رواية « فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن» أي على صورة صفاته، ولذا أعلى مراتب تطوير وتكريس الذات على المثاليات العليا هي مرتبة الربانية التي يقتدي فيها الإنسان بصفات الرب الحسنى كالرحمة والعدل والودية، ويترفع عن الصفات الغرائزية النرجسية وهذا يجعله إنسانا أفضل لعائلته ومجتمعه والعالم، بينما الحب النرجسي للنفس يجعله مراهقا للأبد ومزعجا لأهله وللمجتمع والعالم.