بسمة السيوفي

«تأخرتي»

الثلاثاء - 27 فبراير 2024

Tue - 27 Feb 2024

تحتاج إلى استراحة من عقلها الذي يدق طبولا من التوتر والألم.. طفلتها الصغيرة في الشهر الثامن من العمر.. والقرار لا يقبل التردد، القلق يقتلها ويبقيها مستيقظة.. هي هنا وهو هناك، رحل إلى الرياض من أجل فرصة عمل أفضل كما فعل أغلب الشباب في الست سنوات الماضية.. هو من أخذ القرار.. وهي انصاعت بعد سنتين من الزواج من أجل المستقبل، أسسا بيتا جميلا وبدأ الكفاح.. الرياض بجمالها مغرورة تسلبك هدوءك النسبي فتكتشف نفسك من جديد، كانت تعود إلى جدة تقريبا مرتين شهريا إلى أن أنجبت بنتا هي ثمرة حب واثق؛ فقلت السفرات، ماتت أمها فجأة وهي في الرياض.. كان الموت جرس يقظة لعلاقتها بموتها الخاص.. هي الابنة الوحيدة بين ولدين.. أبوها مغموم من الوحدة.. وهي ترتحل بين مدينتين لا يؤنسها إلا الفقد.

مكثت هذه المرة شهرا وأكثر مع أبيها.. تؤنسه بوجودها وضحكات طفلتها، هاتفتها جارة منزلها في الرياض.. هي طبيبة في أحد المستشفيات.. تواسيها كل فترة وتسأل عن أحوالها.. أخبرتها أنها البارحة التقت بأخت زوجها وهما يغادران.. اللثام محكم على وجهها... استمعت بطلة قصتنا للمكالمة بكل رباطة جأش.. هي تعلم أن مدخل بيتها مراقب بالكاميرات الموضوعة على باب جيرانهم.. أنهت حديثهما ثم اطلعت على الفيديو المرسل.. وأخذت نفسا عميقا.. وكان لا بد من إجراء مكالمة مصيرية.. فزوجها ليس لديه أخت! سألته بداية فأنكر بصوت ملطخ وهيجان تعيس.. وهي لديها دليل يثبت دخول المرأة وخروجها من البيت.. وربما جلست على سريرها... كان رده بعد أن استنفد كل الأعذار: «أنت الغلطانة.. فقد (تأخرتي)»!!!

هي من النساء اللاتي لا يقبلن أعذارا وقحة وواهية.. ولا تريد التأقلم مع وضع يحتمل تكراره.. ولا تقبل أن يكون الرجل غرا ضعيفا لا يقاوم المغريات ويتعامل باستخفاف ليبرر الخيانة على أنها ردة فعل طبيعي ومزاج.. وحق مكتسب ضد الغياب. في شرعنا لا تصبر المرأة على فراق زوجها بين «ستة أو أربعة أشهر» كما أخبرت به حفصة رضي الله عنها، أبوها عمر عندما سألها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقال رضى الله عنه: لا أحبس الجيش أكثر من هذا»... هذا للمرأة.. الغائب زوجها جهادا في الحروب... وليس للقابع في الرياض.

ليس كل من سافر للعمل خائن.. ولا كل المدن تحض على ستر الخائنين، ولن تتجمل غايات الخيانة أبدا.. حتى «بروتس» نفسه كان يزعم أن هدفه نبيل عندما سدد طعنته لصديقه الإمبراطور يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير. من يخون هو في الأساس قابل لارتكاب فعل الخيانة.. تماما مثلما هناك شعب مستعمر وشعب قابل للاستعمار.. الخائن ينتهك الثقة ولا يفي بالعهود، ولديه جوانب نفسية واجتماعية تضعف من التزامه بالقيم والمبادئ بشكل يؤثر على علاقاته، هو شخص قابل للإغراء والجذب، ونزواته تؤثر على قراراته.

الخيانات لها قصص كثيرة تثير الاستهجان، ومفهوم الخيانة يختلف عبر الأزمنة والأماكن، حسب الظروف ومستوى الوعي، وسلم القيم ودرجة تطور المجتمع، والتربية في البيت والمدرسة. الخيانة قناع يلبس ويزال ليعصف بالواثقين في ضربة قاصمة.. وكأن المغدور يفتح عينيه من جديد بالرغم من الألم والصدمة الكبيرة.. ليرى الشخص عاريا إلا من الخطيئة.

الهجرة إلى المدن الرئيسة تتأثر بعدة عوامل أبرزها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على واقع الحياة الأسرية.. مما يتسبب في تغيير حياة الأفراد ويؤثر بشكل واضح على تماسك الأسر والعلاقات.. هذا على افتراض أن الأسرة الصغيرة انتقلت بأكملها إلى المدينة.. لأن هناك أسرا تتفكك أيضا دون خيانات.. بسبب فتور العلاقة وتشتت الزوجين بين مدينتين.. والاعتياد على نمط جديد من التواجد وعدم التواجد في نفس الوقت.. فأصبح الأب هو العائل الاقتصادي فقط.. وتراكمت مسؤوليات التربية والتنشئة والرعاية على كاهل الأم وأسرتها.

ما أريد قوله إننا غالبا نناقش أثر هجرة السكان على المدن.. ازدحاما وبنية تحتية.. لكننا لا نناقش أثر الهجرة على حياة الأفراد ومستقبل الأسرة.

مستقبل العاصمة الرياض يستهدف أن يصل عدد سكانها إلى 20 مليون نسمة عام 2030.. وقد ارتفعت نسبة الهجرة خلال الأعوام الماضية بسبب فرص العمل المغرية وبلغت معدلات هجرة السعوديين من جدة مثلا: 18%، ومن مكة 7%، ومن المدينة المنورة 6%، وفق إحصائيات العام الماضي.

والواقع أني لم أجد ما يناقش مآلات ظاهرة تفكك الأسر بسبب الهجرة.. أو يقترح حلولا لمجابهة أي عوامل تقوض تماسك الأسر التي قرر عائلها الهجرة للعمل، حتى بعد محاولات لإيجاد دراسات أو إحصائيات حديثة لمجلس شؤون الأسرة التابع لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية. لا يمكننا التعميم بالتأكيد.. لكن هناك مشكلات متجذرة وأخرى مستجدة تسترعي الاهتمام والبحث من «كافة الجهات ذات العلاقة».. منها تباعد الأسر وارتفاع معدل هجرة الشباب ونسب الطلاق.. لا بد من إيجاد حلول تعزز من أهداف المحافظة على أسر سعودية متماسكة.

انتهت قصة البطلة بعد جلسات قضائية ماراثونية، وأظهر الانفصال أسوأ ما في الزوج.. برزت الأنياب خلال القضية وعند القضاة وحتى في النفقة والحضانة.. والسؤال.. لما لا يفارق الخائن بمعروف وإحسان.. خاصة إن كان له ولد؟! وهي لم تفضحه وتثبت عليه الوقائع.. فأخلاقها وأولوياتها هي بوصلة التعامل مع الموقف ومع والد طفلتها.. والحقوق مستودعة لدى الديان.

عادت لتنير حياة والدها.. «وإن يتفرقا يغنِ الله كلا من سعته..» وعاد هو إلى ماعاد إليه..

smileofswords@