عبدالحليم البراك

عزاءات الحكمة

الاثنين - 26 فبراير 2024

Mon - 26 Feb 2024

تأتي الحكمة على هيئة بيت شعر يتداوله الناس فيما بينهم، يحمل في ثناياه ما يمكن أن يقودهم إلى الفعل الصحيح أو على مقولة قصيرة تختصر المعاني الكبيرة وتختصر التجارب الكبيرة والخبرات الطويلة، وهذه المقولة هي عصارة ما يقدمه الحكماء للناس، وقد تأتي الحكمة على هيئة تصرف حكيم يقوم به أحد الأشخاص، ويدل هذا التصرف على دهاء وثقة بالغة يدركها العقلاء فينقلونها إلى الأجيال من بعدهم بهدف ألا تضيع الحكمة بين الناس وألا تتكرر الأخطاء مرة أخرى!

ولأنك لا تعيش مرتين، ولأن الحياة ليس فيها متسع طويل، فإننا نلجأ للحكمة لتختصر لنا طريق الحياة القصير جدا!

تقدم الحكمة في معناها القصير الصغير هذا والمتداول بين الناس عزاءات كبيرة جدا تجعل من تداولها أمرا مشروعا في البدء، ثم أنها تقوم بعزاءاتها للأخطاء التي يقع فيها الإنسان، وربما قامت بتصحيح مساره، والأهم من ذلك كله تقدم له مبررات الفعل إن استمسك بها قبلا، أو عزاءات التخلي عنها إن صارت له درسا لخطأ سابق له.

من عزاءات الحكمة أن تختصر الطريق لك، وتعيد ترتيب حياتك فهي تمنعك من أن تسلك الطريق الخطأ الذي سلكه غيرك، وتحفظ لك قداسة وقتك الذي تعتبره أعز ما تملك، بل وتقصر مسافات الطريق لتحفظ جهدك الذي بين يديك لما هو يستحق التعب والعناء، والحكمة تقوم بما هو أعظم أيضا فهي تعطيك الاختيار المبني على تجربتك وتجربة غيرك وهو الشيء الذي يمنحك الثقة في نفسك.

ومن عزاءات الحكمة العظيمة التي لا يمكن تجاوزها أنها تمنحك الطمأنينة في تصرفك وقرارك، حتى ولو نالك بعض الأذى من يومك فلا يخفف عليك الأذى إلا الطمأنينة التي نلتها من عزاءات الحكمة التي اتبعتها، وهنا نأتي إلى الهدف الإنساني النبيل الذي تسعى إليه وهو السعادة، فلا سعادة بلا طمأنينة؛ لأننا يمكن أن نقول إن القلق عدو الطمأنينة، وأقصد بالقلق ذلك القلق السلبي الذي يمنعك من الراحة والإنتاج والتفوق وابتكار الأشياء وقتل الشغف.

ومن عزاءاتها أيضا أنها تلبسك الصفات الحسنة التي يمكنها أن ترفع من شأنك ولو لدى نفسك عن قناعة وحقيقة وليس كبرا أو غرورا، فيمكن للحكمة أن تلبسك لباس الصمت، وتكسبك أيضا صفت الإنصات، وكذلك يمكن للحكمة أن تمنحك معنى اللغة الأعمق من خلال الاختيار بين الكلمات والجمل الأكثر صوابا، كما أنها تعطف عليك بسلوك الهدوء والرزانة بل بما هو أفضل من هذا كله وهو حسن التقدير للأمور بقدرها فلا تتأخر على ما يجب أن تستعجل به، ولا تسرع نحو ما يزينه الهدوء.

بقي أن نشير أن من الحكمة أن تتضاد الحكمة، فتسمع أن الصمت من ذهب، وتسمع أيضا أن خير الناس من يقول خير الكلام، ويقال بأن «خير البر عاجله» وضدها بأن «العجلة من الشيطان» فتكون أحد عزاءات الحكمة هي تنمية قدراتك العقلية لاختيار ما يناسب الموقف؛ فتكتسب الحكمة كما لو كانت صفتك الأصيلة الداخلية بدلا من أن تكون كلاما مجردا، وتصبح تصرفا وعقلا راجحا يسكن رأسك بدلا من أن تكون الحياة هي من تسيرك! إن كانت هذه الصورة البسيطة للحكمة أن تتمثل ببيت الشعر أو مقولة لفيلسوف أو حكيم، أو حتى تجربة يتداولها الناس، فهي لا تقل عن الحكمة الأم وهي الفلسفة التي يصل فيها الإنسان الأكثر حكمة إلى المعنى الأكثر وعيا وإدراكا للكون فهي أشمل من حكمتنا هذه فهي تشمل وعي الأخلاق وفهم الكون والحياة وتصور كيف يمكن لهذا الكون أن يجري، فلا عزاءات مثل عزاءات الفلسفة ولا عزاءات مثل عزاءات محبة الحكمة نفسها.

أخيرا، من خلال وجهة نظري، علينا أن نتلمس طريق الحكمة والحكمة نفسها، فنتبعها مادامت تقدم لنا كل هذه العزاءات والفوائد ولو أخذت الحكمة شكل التأمل في حياتنا أو كتاب غير حياتنا أو تجربة آخرين ألهمتنا أو صبر وهدوء وصفات الفضيلة التي تضيف لنا ولا تنقصنا!


Halemalbaarrak@