بندر الزهراني

الملتقى الإحصائي الأول للجامعات والجمعيات الإحصائية

الاحد - 25 فبراير 2024

Sun - 25 Feb 2024

من المفارقات الجميلة، أنني علمت ـ هكذا بالصدفة ـ نية واعتزام الهيئة العامة للإحصاء تنظيم الملتقى الإحصائي الأول للجامعات السعودية والجمعيات الإحصائية، وهي - أعني الصدفة - قدر ممتهن الإحصاء والاحتمالات والسير العشوائي، ولا مناص منها لمتخصص مثلي أو مناط عنها، وأجمل ما في الصدفة أنها خالية من الانتظار، كما يقول محمود درويش، وكلامه صحيح، فرغم أن الصدفة قدر حتمي مكتوب، إلا أن لها عند الشعراء وعلماء الإحصاء معاني كثيرة، وتختلف حتى عن معنى الفرصة!.

ولأنها كذلك، حاولت التواصل مع الهيئة بشكل ودي لا رسمي. فأنا لست رئيسا لجامعة أو مسؤولا إداريا فيها، ومنذ زمن بعيد لم أعد رئيسا لقسم الإحصاء في جامعتي، ولكنني مؤمن بأن مسؤولية الأكاديمي وكاتب الرأي العام تتجاوز الرسميات لما هو أعمق وأشمل وأنفع بإذن الله. ولربما تحولت الصدفة عندي - كما عند غيري - إلى فرصة عظيمة، وتمكنت من عرض بضاعتي المزجاة. فطلبوني أن أرسل إليهم سيرتي الذاتية، فأرسلتها بتواضع جم مع رابط لمقالاتي وكتاباتي الشيقة والمثيرة، مع العلم أنني في يوم من الأيام كنت محاضرا على خشبة مسرح الهيئة، ولما لم تفلح محاولاتي وباءت بالفشل، رأيت أنه من المناسب أن أطرح لكم بعضا من خواطري وشجوني الإحصائية، وأشاركها الزملاء والقراء بعد اختصارها وإعادة ترتيبها.

في البداية، يجب أن نقر بأن مجرد التفكير في تنظيم مثل هذا الملتقى يعد خطوة استباقية رائدة، ومبادرة نوعية مميزة، وفرصة لا صدفة تحسب للهيئة في كل الأحوال، وهذا العزم - بلا شك - يعكس اهتمام الهيئة بالعمل الإحصائي الرسمي، ويعطي انطباعا جيدا على إحساسها المهني بأهمية إشراك الجامعات والجمعيات - وربما جهات أخرى - في إنجاح مثل هذه الخطوة. وأرجو أن تتسع الصدور لما سأكتبه من ملاحظات ناتجة من حتمية خبراتي المعقولة في هذا المجال، وأحسب أنها مفيدة إذا ما أخذت في الحسبان، وهي بطبيعة الحال استدراكات ناقد ووقفات محب، فإن كانت صائبة فهي من توفيق الله (عز وجل)، وإلا كان لكاتبها أجر المجتهد ويكفيه ذلك.

وكما أنه لا أحد ينكر المحاولات والاجتهادات من الهيئة ومن بعض الجامعات أو الجمعيات الإحصائية في احتضانها ملتقيات ومؤتمرات إحصائية نظمت في السنوات الماضية، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لكثير منها الاستمرارية في النجاح، والسبب - من وجهة نظري - يرجع في المقام الأول إلى إغفال الجانب النظري في العلوم الإحصائية، وغيابه عن المشهد الحواري، أعني الجانب الرياضي المتخصص، فينصب الحديث كله عن موضوعات تتعلق بتطبيق الإحصاء وتحليل البيانات لا أكثر!.

ولا بأس بالإحصاء وتحليل البيانات، إذا ما كان الأساس مبنيا على تطوير الجوانب الرياضية، لا الاكتفاء بحوارات هامشية، أو تقديم ورش عمل في تحليل البيانات واستخدام الحزم الإحصائية، التي هي في واقع الأمر لا تعدو أكثر من كونها أثرا ونتيجة للعمل الرياضي، وهذا يعني أننا فيما مضى قد قصرنا اهتمامنا على النتائج المطبقة سلفا، دون الأخذ في الحسبان المؤثرات والأسباب الحقيقية التي من شأنها تجويد هذه النتائج، أو فتح مجالات أخرى للاكتشافات المتولد عنها نتائج وإسهامات جديدة، يمكن أن
تسجل لمثل هذه المؤتمرات والملتقيات.

في المحاولات السابقة، كانت المشاركات في عمومها تتحدث عن مستقبل الإحصاء وتحليل البيانات، أو علاقة الإحصاء بغيره من العلوم والمعارف الإنسانية.

وفي اعتقادي أن مستقبل الإحصاء وتحليل البيانات لا يمكن عزله عن أصله الرياضي أو تنحيته عما يسبقه من تطورات نظرية تدعم استخدامه بشكل أمثل، ما يعني أنه إذا ما أردنا استمرارية نجاح هذه المؤتمرات، فلا بد أن نهتم أولا بالإحصاء الرياضي والاحتمالات، ثم ندرس مجالات تطبيقهما في شتى مناحي العلوم والمعارف.

فلا يمكن أن نعقد المؤتمرات والندوات كي نتحدث عن مهارة استهلاكنا لما يرشح من إنجازات واكتشافات غيرنا، فإن فعلنا فسنظل مستهلكين جيدين لا مكتشفين أو مطورين، وهذا بالطبع ما لا نريده لأنفسنا.

هذا تنظير جيد، ولكن ماذا عسانا أن نفعل نحو تحقيق هذا الهدف؟.
في اعتقادي، أن الخطوة الأولى نحو الوصول إلى هذا الهدف وتحقيق غايته، تكمن في إيماننا العميق بقدراتنا الإبداعية في استحداث النظريات الرياضية، وأن لدينا طاقات بشرية مؤهلة تأهيلا عاليا، لا يمكن تجاهل قدراتها الذهنية والإبداعية، وأنه بإمكانها أن تكون معولا حقيقيا نعول عليه في وجودنا في المحافل العلمية، وجودا منافسا ومؤثرا، لا وجودا شرفيا أو هامشيا، ومن ثم نبني عليها خططنا المستقبلية واستراتيجياتنا الإدارية، سواء في التنظير الرياضي أو العمل الإحصائي، أو فيهما معا.

صدقوني، إن طاقاتنا البشرية بما تملكه من صفاء ذهني ونبوغ معرفي، وبما توفره لها الدولة - حفظها الله - من رعاية واهتمام ودعم معنوي وعيني، يمكن أن تكون على المدى البعيد واجهة مشرفة لتمثيل الوطن، فيما تقدمه أو تسهم خلاله في اكتشافات علمية جديدة في مجالي الإحصاء الرياضي والاحتمالات، ثم مجالات تطبيقهما في أي حقل من حقول المعرفة الإنسانية.

ولكن، الإيمان بهذه الحقيقة وحده لا يكفي، ما لم يقترن بالعمل الصحيح، فالعلاقة هنا علاقة تطاردية تامة، ويجب أن تكون تزايدية لا تناقصية، بمعنى أنها علاقة تقارب لا تفارق وتجاذب لا تنافر!.

كيف يا دكتور بندر؟ نريد استراتيجية واضحة وملموسة وقابلة للتطبيق والقياس، لا نريد مجرد تسطيح وتنظير إنشائي!. نعم، هذا صحيح، فالتنظير حول العموميات - كما هو معلوم - لا يكون ذا قيمة ومعنى إذا كان بمعزل عن التطبيق. فعندما ندعو لإقامة مؤتمر أو ملتقى إحصائي، يجب ألا يكون اهتمامنا منصبا على شكليات أو شخصيات الحضور فحسب، فالكل يستطيع فعل ذلك، والكل يحسن التنظير - كما أفعل أنا الآن - وهنا الإشكال، وإن لم نخرج أنفسنا من هذه الحالة ستظل ظرفا ملازما لنا عند أي محاولة نتلمس نجاحها، وإن كنا سننجح في عرض الإيجابيات وتناول السلبيات، إلا أننا سنبقى في حالة من التوهان وتكرار الذات تكاد لا تنتهي.

وقبل الحديث عن عقد المؤتمرات وإقامة الفعاليات والملتقيات، وبعد الإيمان والوثوق الراسخ بقدراتنا الذهنية والإبداعية في استحداث النظريات الرياضية، نحن بحاجة ماسة إلى مرجع واحد أو جهة مستقلة بذاتها، متحررة من البيروقراطية والروتينية المعتادة والرتابة الإدارية المألوفة، جهة تكون قادرة ماديا ومعنويا - كالهيئة مثلا، أو غيرها - فتغدو لعلماء الإحصاء السعوديين أبا راعيا وأما حاضنة وأسرة جامعة.

واختيار الهيئة مضربا للمثل هنا ليس للحصر والقصر عليها، لا، ولكن لأن الهيئة بطبيعة عملها الحالي وتنظيمها الجديد لم تعد كما كانت في السابق مصلحة عامة للإحصاءات الرسمية وحسب!.

بمعنى أدق، نحن بحاجة إلى جهة رسمية تضطلع بمسؤولية إقامة مؤتمر سنوي، هي من يشرف عليه ويتولاه مع نخبة من خيرة علماء الإحصاء من السعوديين ونظرائهم الدوليين، تعرض فيه الأبحاث العلمية والنشاطات الإبداعية - وهذا ربما ما تسعى الهيئة إلى القيام به خلال ملتقاها الأول أو على الأقل تشعر به في قرارة نفسها - ثم إطلاق مجلة علمية إحصائية متخصصة، تكون على سبيل المثال ربع سنوية أو شهرية، (يتنافس) علماء الإحصاء السعوديون والدوليون على النشر فيها، وتتسابق على نشرها وإخراجها أعرق دور النشر العالمية.

في اعتقادي، أن الاهتمام بالجوانب النظرية في الإحصاء والاحتمالات، وجعلها بؤرة الانطلاق الحقيقية سيوفر لغيرها من الجوانب التطبيقية أرضية صلبة ومرتكزات ثابتة، تعزز من سبل وعوامل إنجاح أي محاولة جادة في هذا المنحى، فضلا عن خلقها جيلا من علماء الإحصاء السعوديين يمكن الاعتماد عليهم في استمرارية أي خطوة حثيثة نحو ما نصبو إليه من النجاح، وما نطمح إليه في اعتلاء القمة ومزاحمة المنافسين عليها.

فكل مؤتمرات الإحصاء العالمية لا تكون إلا لعرض الأبحاث العلمية المميزة، وهذا لعمري هو الغرض الأسمى لأي مؤتمر علمي، ولا بأس أن تعقد على هامشه لقاءات ودية جانبية، واجتماعات تشاورية، لا العكس!.

والدولة - رعاها الله - قامت بإنشاء الهيئة العامة للإحصاء، وجعلتها الجهة الوحيدة المسؤولة عن العمل الإحصائي، ونظمت عملها بتنظيم الهيئة العامة للإحصاء، ولكنها ببعد نظرها وتطلعها الطموح، لم تقصر نشاط الهيئة في جانب الإحصاء الرسمي تحديدا، بل أتاحت لها الفرصة في إجراء الدراسات والبحوث العلمية الإحصائية، وإقامة المؤتمرات العامة والندوات التثقيفية والملتقيات العلمية، بما يضمن لها تجويد عملها الإحصائي والنهوض بغيرها، ضمن اختصاصاتها ومسؤولياتها المنصوص عليها.

الجميل في محاور ملتقى الهيئة المزمع إقامته - وكلها جميلة - أنها تعكس جانبا من جوانب اهتمام الهيئة بتطوير الإحصاء، ومن ذلك أنها ستناقش إمكان إعادة تشكيل أو تطوير مناهج الجامعات في أقسام الإحصاء والاحتمالات، بما يتناسب مع احتياجات وحجم التحديات في المرحلتين الحالية والمقبلة، ولا أعلم هل مناقشة هذا المحور ستكون بعرض أوراق علمية بحثية متخصصة؟ أم إنها ستكون مجرد ساحة لتبادل الحوارات والاستئناس بالآراء العامة؟ ولا بأس في الحالتين.

إلا أن الحوارات العامة في الغالب لا تكون إلا محل أخذ ورد، وقبول ورفض، وما أقوله أنا أو أراه قد لا يقبله زميل آخر، وهذا أمر طبيعي ومقبول، ثم إن مثل هذه الحوارات مهما كانت جودتها ونجاعة توصياتها، لا تكون ملزمة لأي جهة إلزاما إداريا وأدبيا، وأيا كانت المحصلة العامة فإن مثل هذا المحور لا يصلح إلا أن يكون ضمن جدول أعمال جهات ولجان رسمية، تكون قراراتها نافذة وملزمة لها ولمن ينضوي تحت إدارتها، لا محورا رئيسا في ملتقى أو مؤتمر علمي!

التوعية الإحصائية محور آخر من محاور ملتقى الهيئة، وهذا في العموم محور جيد، ولكن التوعية الإحصائية لا تقدم عادة للمتخصصين في الإحصاء، إلا في حالات نادرة ونادرة جدا، وإنما تقدم للمهتمين بالإحصاءات والمتابعين لها من مختلف طبقات وشرائح المجتمع، ويمكن أن تكون التوعية الإحصائية مادة مؤثرة شكلا ومحتوى، إذا ما قدمت بوسائل أخرى واسعة النطاق، سهلة الوصول وجذابة المحتوى وعلى أيدي المتخصصين.

ومن وجهة نظري أرى أن التركيز على هذا المحور في المؤتمرات والملتقيات السابقة، كان أحد أهم أسباب بقائها في دائرة الوحدة المظلمة، وتقوقعها حول نقطة الأصل المحبطة.

قد يقول قائل: الهيئة العامة للإحصاء ليست مرجعا أكاديميا، بمعنى أنها ليست كلية ولا معهدا أو قسما يدرس الإحصاء، ولا جمعية علمية، ولا من مهامها وأهدافها الأساسية الاهتمام بالجوانب الأكاديمية سواء في التدريس أو البحث العلمي، فكل اهتمامها منصب على الإحصاء الرسمي وحسب، وهذا صحيح نسبيا، ولكن ما المانع أن تكون كذلك ولو جزئيا؟، أقصد أن يكون ضمن أهدافها الأخرى الاهتمام بالإحصاء الرياضي والاحتمالات تدريسا وبحثا، ولو على مستوى برامج الدراسات العليا التنفيذية، فإن فعلت فإنها ستتفوق على كثير من الجامعات والمعاهد، وستكون وجهة العلماء الأولى، وإليها يشدون رحالهم، ولا يعني هذا إغفال مهمتها الأساسية في إعداد الإحصاءات الرسمية وتوعية المجتمع بها.

صدقوني، إن ضعف مخرجات الجامعات في العمل الإحصائي، ومراوحة الجمعيات الإحصائية المحلية في مكانها دونما نجاح حقيقي يكتب له الإثمار والاستمرار - أو على الأقل كما أراها أنا - لا يعود لقصور في المناهج أو ضعف في الكوادر البشرية أو قلة في الموارد المادية المتاحة، أبدا، ولكنه يرجع إلى غياب الجهة المستقلة أيا كانت، الجهة التي تؤمن بدورها الشمولي والمفصلي في أخذ موقع الريادة ورفع راية القيادة، والاضطلاع بمسؤولياتها العامة والضمنية ومباشرة العمل بها فورا.

مد جسور التعاون بين الهيئة وبين الجامعات والجمعيات الإحصائية أمر جيد، لكننا نستغرق وقتا طويلا في إنشاء مثل الجسور ومدها، وقد لا ننجح في استخدامها، إما لندرة الصدف أو غياب الفرص، وكان بالإمكان مدها رمزيا وشرفيا أو حتى افتراضيا، ذلك لأن الجهة الأقوى بكل ما يحمله معنى القوة من معنى، هي تلك التي بإمكانها وحدها خلق كل مقومات وعوامل النجاح، لا تلك التي تبحث عما يعرقل خطوات نجاحها أو يعيق تقدمها أو يجعلها - لا سمح الله - تدور مع غيرها في حلقة مفرغة من الوهم والشعور بالنجاح المرحلي، الذي عادة ما يكون أشبه بإعلان مهرجان عابر!.

وكلامي هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال انتقاص جهود الزملاء في الجامعات والجمعيات الإحصائية أو في الهيئة، معاذ الله، ولكنه محاولة لتغيير خطة العمل وتصحيح بوصلة المسار، ولهم مني شخصيا كل الاحترام والتقدير، ولكل زميل جعل همه الأول وغايته الأسمى التطوير المستمر، ولا أظنهم إلا مثلي وأحسن مني، يشاطرونني الرأي ويتطلعون معي ومع غيري لمستقبل باهر وعظيم في العمل الإحصائي الرسمي والأكاديمي على حد سواء.

وفق الله الجهود المبذولة والآراء السديدة والنوايا الصادقة المخلصة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

@drbmaz