عبدالحليم البراك

هل يعالج الطبيب النفسي نفسه؟!

الاثنين - 19 فبراير 2024

Mon - 19 Feb 2024


في لحظات كثيرة جدا يمكن لطبيب الجسد أن يعالج نفسه، فالمرض الجسدي الذي يعاني منه يحمل خصائص تمكن الطبيب من أن يعالج نفسه بنفسه، من هذه الخصائص أن معظم ما يقرره الطبيب حول المرض المصاب به ليس حدسه الشخصي في نفسه، أو تقييمه الذاتي له فحسب؛ بل الأشعة والتحاليل والمختبر ودقة الأعراض الجسدية المادية الظاهرة، فلذلك تبدو مساحة الاجتهاد الداخلية لدى الطبيب محدود للغاية (وإن كانت موجودة)، كما أن ثمة صفة أخرى للمرض الجسدي وهو أن هذه الأعراض الظاهرة تزول بشكل سريع جدا مزيلة معها المرض نفسه في أحيان كثيرة للغاية عند أخذ العلاج اللازم، وفي المرض الجسدي تبدو النتائج واضحة للعيان، فالجسد يستجيب أو لا يستجيب للعلاج إذ لا إنكار ولا مقاومة بالعادة، كما أن ثمة صفة أخرى للمرض الجسدي تتعلق بنظرة الإنسان نحو المرض الجسدي وهي أنه لا يخجل منه، فمن تؤلمه عينه لا يتردد أن يقول للناس إن عينه تؤلمه لسبب ما أو حتى بدون سبب، وإن كان ثمة صداع في رأسه فليس ثمة ما يخجل منه، وسيناقش زملاءه الأطباء في ما أصابه لأخذ النصيحة كما لو كانت جلسة استشارية!
بينما ثمة صفات في المرض النفسي قد تعيق علاج الطبيب النفسي لنفسه ولعل أبرزها أن معظم قرارات أطباء النفس للأمراض النفسية إنما تقوم على تشخيص الطبيب والمبني على تقديره الشخصي إلى حد ما، وهنا قد يغيب عنصر الحياد (إن عالج نفسه بنفسه) الذي كان يقدمه المعمل والتحليل والأشعة، وإن كانت بعض الأمراض الأخرى كالأمراض العصيبة يمكن الكشف عنها ماديا، فإن كان عنصر الحياد ضعيفا، ومع ارتفاع عنصر آخر وهو الإنكار فإن الطبيب قد يتعثر في تشخيص نفسه ثم البدء في علاج نفسه، وقد يخجل الطبيب أيضا من أن يناقش أعراض الإصابة واحتمالاته مع زملائه الأطباء مما قد يدفعه لتغطيه هذا المرض حتى يستفحل أحيانا!
ولأن الطبيب يعرف أن معظم الأدوية النفسية لا تعالج المرض بل توقف العوارض الناتجة عنه فإنه يدرك تماما بأن هذه الأدوية قد تكون حتمية العمل، أضف إلى ذلك عنصر المقاومة التي يبديها المريض في الاستجابة للعلاجات النفسية وخاصة المتعلقة بالمقابلات، ومعرفة الطبيب للحيل الدفاعية فإنه سيمارسها بل ويستعمل مرضاه في إنكاره للإصابة أو اختلاف التشخيصي، ونعود للحياد الذي يضعف كثيرا عندما يكون الأمر يتعلق به.

كما أن ثمة أمرا آخر أيضا يجعل من الطبيب يتعثر في علاجه لنفسه، فمهما حاول الطبيب المدرك أن يقنع مرضاه بأن المرض النفسي كالمرض العضوي هو خلل يجب معالجته فإنه في قرارة نفسه ينظر إليه كأفراد المجتمع وهم ينظرون إلى الأمراض النفسية التي تبدو عيبا أو منقصة، ولذلك يرتفع مستوى الإنكار من جهة وعدم الحياد من جهة أخرى.

وثمة تطرف آخر قد يقع فيه الطبيب وهو الوهم في الإصابة، فقد يتوهم إصابته بالمرض فيتأرجح ما بين التشخيص الصحيح وما بين التوهم لمعرفته إياه وهذا التأرجح قد يعيق عملية الحكم الصحيح على المرض أو ما يشعر به مما يتطلب من عنصر آخر محايد أن يتداخل مع (الطبيب/المريض) للنظر في أمره، ولكن في المجمل وخاصة في الشرق يبقى الطبيب منعزلا عن هذا الأمر، كما أن ثمة أمرا مهما للغاية وهو الجانب العاطفي الذي يلف الأحكام الشخصية وخاصة عند الإصابة بمرض نفسي، تؤثر على قدرته على التعامل مع عائلته وعمله وما حوله، هنا يبرز تأثير العاطفة في القرار فما بالك إن كان القرار قرارا طبيا وأدوية قد تؤثر على صحته العقلية والجسدية على المستوى البعيد خاصة فيما يتعلق بالأعراض الجانبية للأدوية!
إن أبرز ما يمكن قوله هنا، إن آلة الوعي والإدراك هي الأداة التي يمكن التوكؤ عليها في النظر إلى هذه الإشكالية، فكلما تداخلت العاطفة والتحيز واحتلت مكانا كبيرا في اتخاذ القرار (أي قرار) صار من الأجدى أن يكون الآخر هو المتداخل، وهذا لا يعني أن عناية الآخر أكثر من عناية الشخص نفسه بنفسه، ولكن يعني أنه يمكن أن يكون أقل أخطاء وأقل تحيزا وأكثر عقلانية وإدراكا للحالة الواجب النظر إليها.


Halemalbaarrak@