هتون أجواد الفاسي

أين السودان وأين كنداكاته؟

الاحد - 18 فبراير 2024

Sun - 18 Feb 2024


فيما الأنظار والكاميرات مسلطة على رفح، والأنفاس محبوسة في ترقب لما سوف تفضي إليه الأيام القادمة من جرائم حرب وجرائم إبادة أخرى جديدة يقترفها الكيان الصهيوني، وفي كل الأحوال العجز شامل، تنجو قوات الدعم السريع بجرائمها ومجازرها واغتصاباتها وتهجيرها للشعب السوداني من الحصول على أي جزء من هذا الضوء عليها وعلى ما يجري في السودان أو من محاسبة أو ملاحقة، والشعب السوداني يختفي ويلغى من كتب التاريخ، وهو صامد بينه وبين نفسه يدافع عن نفسه كيفما اتفق، لكنه في معزل وبمفرده، فالعالم منشغل بالكثير من المآسي ابتداء من أوكرانيا مرورا بدول غرب ووسط أفريقيا وانتهاء بغزة والإبادة التي تتعرض لها جهارا وفي وضح النهار.

بالمقابل فالسودان يباد في أوقات مختلفة، من غسق الليل وعند انبلاج الفجر وتحت أشعة الشمس وعند كل غروب.. بعد أن أغمض العالم عينيه عن كل ما يجري في بلاد منطقتنا واكتفى بمتابعة السوبر بول، أو السجال المضجر بين بايدن وترمب، بينما الحرب في السودان هي حرب منسية.. اكتفى العالم بأن أخرج كل رعاياه منها ثم تركها وترك السودانيين للجيشين المتصارعين كل على قطعة من أرض السودان الثمينة وذهبه ومناجمه، ونفطه وموقعه وتربته الخصبة وغيره الكثير من ثروات كامنة معروفة وغير معروفة.

يتحارب عليها هذان الفصيلان، الجيش السوداني وميليشيات قوات الدعم السريع (الدعاما في اللهجة العامية) الجنجويد سابقا الذي أسسه نظام البشير للسيطرة على دارفور وترويع المدنيين بها. واليوم تحارب الميليشيات قوات الجيش وكلاهما ينقضان نضالات ثورة ديسمبر 2018 التي تشاركت فيها النساء مع الرجال، الثورة التي سعت لنظام ديمقراطي مدني وبدت أنه قد نجحت إلى حد كبير، لتعود البلاد إلى سيطرة العسكر، يحاربان بالنيابة عن عدد من الدول المجاورة والميليشيات الأخرى بالوكالة أيضا، مثل فاغنر الروسية وعدد من الدول العربية والأفريقية، وبالإمكان الاطلاع على تقرير نعمة الباقر على الـ CNN.
حرب تقوم على اقتراف كل جرائم الحروب الممكنة وتمرير كل ما يمكنها تمريره من غنائم للتقاسم أو الاستحواذ دونما اكتراث بأي قانون إنساني، أو قوانين الحرب، أو معاهدة جنيف، أو اعتبارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية. كل هذا لا يؤخذ بعين الاعتبار في ظل انشغال العالم عنهم.

إضافة إلى عمليات النهب المنظم للبنوك والمحلات التجارية وتدمير البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات التي تقوم به قوات الدعم السريع، في محصلة هي تدمير للبنيان وللمجتمع. ومنذ اليوم الأول تم استهداف القطاع الصحي وخرجت في خلال أشهر ما عدده 80% من مستشفيات السودان عن الخدمة وفقا للخارجية الأمريكية. ويبدو أن استهداف المستشفيات أصبح موضة الحروب هذه الأيام.

وتقوم كذلك بتفريق وتهجير الشعب من البيوت والاستحواذ عليها ونهبها، وملاحقة الشابات والنساء لاسيما غير السودانيات من المستضعفات لأداء أكثر من دور.. اغتصابهن.. تشغيلهن في دور دعارة واسترقاقهن بالبيع عبر الحدود، هذا فضلا عن النساء المخفيات قسرا ممن تتابعهن منظمة المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي (صيحة) (sihanet.org)، حيث تتم متابعتهن من خلال هذه الهاشتاقات: #LostSudaneseSisters #BringThemBack, and #مفقودات_السودان.

كانت لدي فرصة ثمينة مع أخريات ضمن مكالمة «مساواة» بلقاء عدد من الزميلات السودانيات المقيمات في السودان وممن يعملن في مجالات العمل المجتمعي قمن باطلاعنا على واقع ما يجري على الأرض من أكثر من جانب، سواء من خلال التجربة الشخصية أو تجربة العمل أو تتبع المناخ الإقليمي باستعراض التاريخ الطويل لقوات الدعم السريع حتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم، أو ما تقوم به نساء السودان على سبيل المقاومة اليومية من تولي الشؤون التقليدية من الأعباء المنزلية ورعاية كل أفراد الأسرة الصغير والكبير إلى العمل في الخارج لتأمين ما يمكن تأمينه للقوت اليومي في ظل انقطاع الإنترنت والتحويلات المصرفية وغيرها من ميسرات الحياة اليومية، بل وحتى إلى إخراج جثث أحبائهم وأهلهم من البيوت المدمرة ودفنها في ساحات البيوت. إن النظر إلى الحرب من خلال عيون النساء له بعد آخر لا تراه في وسائل الإعلام النادرة على كل الأحوال.

احتياجات النساء لا تذكر.. ومعاناة النساء قليلا ما يشار إليها، فضلا عن مخاوفهن المرتبطة بصحتهن الإنجابية من كل جانب سواء كن حوامل أو في حالة مخاض أو حيض، أو كن فتيات يخشين على أنفسهن الاغتصاب الذي أصبح مؤسسة قائمة بذاتها ضمن مؤسسة الدعم السريع وامتدت كذلك في عدد من الشهادات إلى القوات المسلحة، بالإمكان الاطلاع على تقرير الجزيرة في 16/8/2023، «لا تدع الجنود الآخرين يشاهدون»، والعنف الممارس ضد النساء هو أحد أسلحة الحروب التي يستخدمها الرجل المنتصر في السيطرة على الرجل المنهزم، باغتصاب نسائه، أمامه، فجسد المرأة هو جزء من ساحة المعركة. وما يحدث في دارفور ليس مختلفا عما يحدث في واد مدني وفي قلب الخرطوم من انتهاكات لم تعد تخشى فضحا أو انكشافا.

وهناك ما يترتب على هذا السلاح من حمل وإنجاب أطفال (نتاج الاغتصاب) لا ذنب لهم بالطبع، لكنهم يمثلون أزمة إنسانية كبيرة تعاني منها النساء، ما بين رفض المجتمع لهن وبين النظرة القاصرة للنساء المغتصبات اللاتي كان يفترض بهن الدفاع عن أنفسهن أكثر.. أو أخذ أرواحهن بأيديهن.. وهو ما تقوم به الكثيرات والكثيرون ممن يتخلصون من حياة بناتهن ونسائهن خشية هذا المصير. والمشترك هو استباحة أجساد النساء، وإباحة اغتصابهن وإدانتهن في حالة اغتصابهن وفي كل الأحوال فإن الضحية في هذه الحال هي المرأة المسكوت عن أزمتها النفسية والجسدية والإنسانية وافتقارها للحماية من عنف الحروب (انظروا تقرير صيحة «أسلحة كاتمة والجروح الأعلى صوتا»). وقد كانت النصيحة العراقية الذهبية هنا هي القيام بتوثيق النساء المغتصبات بالزمان والمكان وتوثيق أبناء المغتصبات لحفظ حقوق الجميع في القادم من الأيام، وهو مما استفادت منه النساء في العراق في ظل حروب متراكمة.

أزمة السودان متعددة الجوانب، ما بين حرب تدمير وتهجير، عدد قتلى وصلوا إلى عشرين ألفا دون أن ينتبه العالم أو يكترث، وما بين نازحين يبلغون سبع ملايين 60% منهم نساء وفق الأمم المتحدة، ومليون ونصف لاجئ إلى دول الجوار، وما بين اعتداءات على كل الأفراد، وما بين إهمال العالم لهم، وما بين التعمية الإعلامية عن أوضاعهم القاسية، فضلا عن استغلال العديد من الدول لوضعهم سياسيا واقتصاديا بالسيطرة على مراكز القوى، ودعمها بالسلاح، والعتاد، والمال.

السودان اليوم دولة من غير قانون. لا يمكن المحاسبة أو السيطرة على أي شيء فيها في ظل ضعف قوات الجيش وتغلغل قوات الدعم السريع مع ما توفر لها من مال ودعم عسكري من الدول المجاورة وتدريب من قوات المرتزقة الدولية.

الحاجة ماسة إلى استدراك ما يمكن استدراكه هناك وعدم تركها مرعى لمرتزقة الدول التي تبحث لنفسها عن موطئ قدم في شرق أفريقيا وعلى البحر الأحمر، مركز قوى هلامي على حساب كل القيم والتناقضات الإنسانية.

السودان بحاجة للالتفات إليه سياسيا وإعلاميا وقانونيا، بحاجة للمساعدات الإنسانية والمعيشية.

السودان بحاجة لإيقاف الحرب العشوائية التي تدور رحاها فيه وقد قاربت على العام، وبحاجة إلى إقامة دولته الديمقراطية العادلة.