طارق فريد زيدان

"سيد الدكاترة" عمي حسين محمد حسين زيدان

الأربعاء - 14 فبراير 2024

Wed - 14 Feb 2024

انظر إلى الدم والدمار الذي يعم العالم، انظر إلى غياب العدالة وطغيان الظلم، انظر إلى منطق القوة الذي بات يتحكم بالناس وانحسار قوة المنطق بينهم. هذا ما كان يقوله لي عند كل حوار وعند كل مقال أنشره. وفي كل مرة قبل أن ينهي حديثه يستعين بالصمت ثم يقطعه بجملة تفيض بالحب من صوته المتهدج "مع السلامة يا أستاذ زيدان"، كم كنت أرقص فرحا في داخلي بهذا اللقب الذي كان يطلقه عليّ عمي المرحوم حسين محمد حسين زيدان، لدرجة أنني وصلت إلى مرحلة من الإدمان على سماع هذه الجملة المحببة؛ فأصبحت أكتب لها ولسماعها.
عندما أعشيي بصره تذكرت جدي محمد. في أحد الأيام داعبته بأنه أصبح يشبه جدي "وأنك تمشي في خطاه"، دمعت عيناه قائلا "إن جدك صنع المسار ونحن المسيرة". نعم كان يحب الكلمة تماما كجدي، وكان يحب الكلمة الناضحة بالأخلاق والمشاعر على الكلمة الفاضحة للعقل والمنطق، بقي وفيا على العهد الذي قطعه لأبيه كما قال لي يوما، وكأن الحب يورث، فقد ورث عن أبيه الحب الجم الفياض، وأضاف عليه من كيسه الكثير، فقد احترف أبو خالد الوفاء جابرا لعثرات الكثير من الكرام وغير الكرام.
عمل في التجارة بعقلية الأب. جامعا بين ولاية الأمر واللين في المعاملات التجارية، لم تثنه خسارة مشروع عن بوصلة الأخلاق. وعمل حول الصحافة والصحفيين وكتب كثيرا، وكان فخورا بمقال اقترح فيه على خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز أن يكون توقيت أم القرى (مكة المكرمة) هو التوقيت الرسمي للدولة، معللا أن التقويم الهجري يتسق مع التوقيت المكي. في نشاط ظل محافظا على المسار الذي رسمه والده، والذي ظلت تدمع عينه عند كل حديث عنه مخاطبا أهل المسيرة. ليتنهد بعدها متذكرا والدته بابتسامة حب تضيء الغرفة. هو هكذا كان أبو خالد صوفيا بلباس رائد أعمال وعميد أسرة بلباس إمام مسيرة.
حمل راية الأسرة بديموقراطية عصرية لا تخلو من تجذر وانفتاح. مفتاح الحياة عنده الحب. أما تصوفه فكان طبيعيا من دون تكلف أو حتى رياء. قلبه متوضئ وعقله صاف ونفسه تكره التآمر. يبغض العنصرية على أنواعها. ولا يزر وازرة وزر أخرى. وعلى قول الشاعر الصوفي الحلاج "ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحب واحترام الناس مقرون بأنفاسه". ومرات كثيرة على حسابه.
تدرج في مدرسة الحياة، وتعلم من الكبار، كيف لا وقد عاشر جيل الرواد في بلدنا الحبيب. في أحد المرات ونحن نتحدث عن الحرية وكيف أنها مسؤولية وليست مطلقة، استذكر جملة سمعها طفلا من الأستاذ الأديب الكبير حمزة شحاتة في مجلس منزل أبيه "الحرية قيد"، ليكمل كيف أن الحرية والمسؤولية صنوان.
ظل يردد أنه لا يحمل شهادة الدكتوراه كباقي إخوانه، لكنه "سيد الدكاترة" كما كان يقول ممازحا. رحم الله سيد الدكاترة عمي حسين وغفر له.
من من بعدك سيتصل بي عند نشر هذا المقال؟!، حتى وإن رن هاتفي الجوال من سيقول ما كنت أتوق إلى سماعه؟!، وضعت برحيلك عمي العزيز صوت هاتفي على الصامت. اليوم في مقالي هذا تغيب عن السمع عمي العزيز، وتغيب ومضة من الحياة وأمضي فيها من دون سماع لقب الأستاذية. وتختصر عمي العزيز الجمهور كله في جملة تماما كما كنت تختصر الحب كله.