عبدالله علي بانخر

إطلالة طائر محلق على المشهد الإعلامي.. رؤية سريعة الملامح

الاثنين - 12 فبراير 2024

Mon - 12 Feb 2024

الحقيقة الأكيدة والوحيدة عن التغيير أنه واقع لا محالة، ويكمن التحدي الأكبر في التعامل مع هذا التغيير وتحويله إلى تطوير وتنمية وإصلاح، وليس تراجعا وتخلفا وإفسادا، ولا يتأتى ذلك بدون موضوعية تخصصية وعقلانية منطقية ومنهجية علمية في التعامل مع إرهاصاته، خصوصا فيما يتعلق بأساسيات العلم والتخصص والعمل والمهنة والفن.. الأمر المهم الذي يجب الحفاظ على أركانه من أي تفريط وتقويض وانهيار لا سمح الله.. وهناك مجموعة من البديهيات الأساسية التي يجب تذكرها:
  1. يقول أهل العلم «إن العلم عملية معرفية لها إطار محدد ومنهج للدراسة والبحث وكذلك مصطلحات خاصة به»، ويقول أهل الفن «إن الفن عملية إبداعية لها مهارات مكتسبة وغير مكتسبة يجب توفرها».. والاتصال وفنونه المختلفة مزيج من العلم والفن معا.
  2. كان الاتصال ضرورة حتمية لكافة مخلوقات الله من إنسان وحيوان ونبات وهناك بعض الأساطير غير المثبتة للجماد أيضا تشير إلى أهمية هذا العلم أو التخصص، وقد برز هذا العلم كتخصص قائم بذاته، ومهنة للعمل لكل من المؤسسات والهيئات والدول منذ بدايات القرن الماضي.
  3. يعزو علماء الاتصال أن الأساس لأي إشكالية هو الاتصال، البعض المتحفظ يقيمها عند حدود الـ 70% من الإشكاليات والبعض الآخر يصل بها إلى حدود الـ 90%، أيا كانت طبيعة هذه المشكلة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو غيره، وأيا كانت طبيعة المستوى فرديا أو ثنائيا أو جمعيا أو مجتمعيا أو مؤسسيا أو حتى دوليا.
  4. الاتصال عملية تفاعلية مستمرة ومستدامة لها أهداف وغايات متنوعة وعناصر محددة وعمليات متعددة تسعى لتحقيق هذه الأهداف والغايات بأساليب مختلفة وفنون متعددة، أبرزها: الدعوة - التعليم - الإعلام - العلاقات العامة - الإعلان - الدعاية - الحرب النفسية - غسيل المخ.
  5. ودون الدخول في تفريعات أو تفاصيل أو جدليات المفاهيم الاصطلاحية لهذه العلوم والفنون المتنوعة، فهي تتدرج في حرية المتلقي في اتخاذ قراراته في تدرج عكسي من حرية كاملة تصل إلى حدود الـ 100% في الدعوة إلى الانعدام بالكامل أو القريب من الصفر في غسيل المخ.
  6. بالرغم من جميع ما سبق إلا أنه كثيرا ما يستخدم مصطلح علم وفن الإعلام المعروف بتزويد الجماهير بالمعلومات المفترض صحتها والآنية لتكوين رأي عام حر ومستقل ومستنير، إلا أن الإعلام كثيرا ما يستخدم كبديل أو مرادف للاتصال مجازا وليس تجاوزا؛ فهو الأكثر رواجا علما وعملا ومثالية، ولا يعد مجرد خطأ شائع فقط عند البعض الكثير وله مبرراته وعدمها في آن واحد.
  7. لذا يفضل قبل التعرض إلى التغييرات العالمية والإقليمية والمحلية في المشهد الاتصالي أو لمن يحلو لهم وصفه دائما بالإعلامي كأحد أبرز علوم وفنون الاتصال والأكثر شهرة واستخداما، وقبل النظر في التحولات أو التغييرات التي تعصف بكافة عناصر الاتصال أو الإعلام الأساسية: مرسل ورسالة ووسيلة ومستقبل وبيئة محيطة.. إدراك أن المشهد الاتصالي والإعلامي خصوصا حول هذه العناصر الأساسية يتغير أو يتبدل أو يتحول بشكل مذهل لم يسبق له مثيل خلال السنوات الأخيرة الماضية.
  8. علما بأن هذه التحولات تتم عبر مجموعة من العمليات التفاعلية المتداخلة فيما بينها، والتي تجمع بين عنصرين وأكثر من عناصر الاتصال مثل: الترميز وفك الترميز، والتأثير والأثر والمؤثرات بأنواعها المختلفة.
ولعل من أبرز ملامح هذا التغيير الواقع على الاتصال عموما أو الإعلام خصوصا في الآونة الأخيرة ما يلي:
  1. تراجع أو كاد أن يتراجع دور القائم بالاتصال أو المرسل وقدرته على السيطرة والتحكم على العملية الاتصالية بعد أن كان المبتدىء والموجه والمرسل لصياغة الرسالة وإرسالها وفقا للمتلقي داخل المنظومة الاتصالية الجماهيرية العامة.
  2. يظل المحتوى أيا كان نصا أو صورة أو فيديو أو غيره هو المتسيد للمشهد بصرف النظر عن صناعه من محترفين أو هواة غير محترفين مهنيا وأخلاقيا وقيميا وفقا للأفراد وللمؤسسات والمجتمعات والدول والعالم بأسره.
  3. تبدل حال الوسيلة تقنيا وفنيا من التقليدية المعروفة ورقيا (الكتب وجرائد ومجلات) والإذاعة والسينما والتليفزيون وغيرها إلى الرقمية المشهودة حاليا من بث عبر وسائط رقمية متعددة الأبعاد والتي أصبحت الآن واقعا حقيقيا ملموسا قبل أن يكون عالما افتراضيا مذهلا.
  4. المستقبل أو المتلقي وبعد تفتت القاعدة الجماهيرية للجمهور أفقيا ورأسيا عبر الزمان والمكان الافتراضي والواقعي بتجزئة فئوية محدودة الكمية والكيفية.
  5. البيئة المحيطة أصبحت أكثر اضطرابا وقلقا وتداخلا إلى أبعد الحدود علميا وعمليا ومن المستويات الفردية الشخصية والجمعية الصغيرة والمتوسطة والمؤسسات والدول سواء من كانت سياسيا وتنظيما واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتجاريا وغيرها بشكل لم يسبق مثيله.
بناء على ما تقدم يمكننا استشراف المشهد الإعلامي العالمي بمزيد من الوضوح فيما يلي:
  1. تراجع المؤسسات الإعلامية التقليدية الكبرى ذات الخبرة الطويلة أو عدم تطور الكثير منها إلا من رحم ربي طبعا لمن تكيف مع التطوير والزمن والتقنية بشكل مستدام رغم احتفاظها بالطبع بمصداقيتها العالية أمام المؤسسات الإعلامية الصغرى أو الحديثة التي تكابد صراع البقاء في غياب الخبرة ومواكبة التطورات التقنية، وصعود وهبوط الأفراد أو «أصحاب الترندات» أو ما يطلق عليهم «مشاهير» دون تحمل المسؤولية المجتمعية والقانونية فيما يقدمون من محتويات.
  2. يظل المحتوى ملكا للعملية الاتصالية أو الإعلامية بما يقدم من مواد ونصوص مكتوبة أو مقرؤة وإن تعاظمت الصورة المتحركة أو مقاطع الفيديو قصيرة المدة من 2-3 دقائق على الأكثر والتي يجب أن تفتح في أقل من 5 ثوان.
  3. تبقى الوسيلة هي الملكة العابرة بالرسالة والمحتوى وإن تميزت ورقيا رقميا أو المزيج بين الاثنين، وعلى الرغم من أن الكتب الورقية بقيمة عالمية تصل 84 بليون دولار أمريكي في عام 2024م.. تظل الكتب على سبيل المثال لا الحصر لاتزال صامدة بنسب كبيرة عالميا تصل 75% في حين الرقمي منها يراوح 25%.. وعلى العكس تماما تعثر في الصحف الورقية سواء جرائد ومجلات تعثرا شديدا للغاية والمتبقي منه يظل من باب ذر الرماد في العيون أو رقميا أو المزيج بين الاثنين مستمرا لا يصل إلى 10% من حجم استخدام الوسائل الإعلامية في عام 2023م، وهذا حال أغلب الوسائل الأخرى حتي التلفزيون والذي تراجع إلى 26% من حجم الوسائل الأخرى رغم أنه يظل الوسيلة الأولى عالميا.. ولا يزال يمثل أكثر من 67% من مشاهدته المشاهدة الجماعية الآنية، أما أمام المنصات والبث الرقمي تصل نسب المشاهدة الفردية التراكمية إلى 33% من حجم المشاهدة الكلية للتلفزيون، وكذلك على الأكثر حال الإذاعات بالراديو والبث المباشر Mainstreaming، وإن كان وضع السينما في تحسن ملحوظ ومستمر بين الصعود والهبوط في السنوات الأخيرة.. وتتراوح نسبة السينما من بين الراديو والصحف بنسب تصل إلى 15% وفقا لحجم السينما العالمية سواء الأمريكية أو الأوروبية أو الهندية أو الصينية وسائر أنواع السينما في العالم.. حيث بلغ حجم إيرادات السينما العالمية إلى حدود 82 بليون دولار أمريكي في عام 2024م.
  4. أما جمهور المتلقين كما ذكرنا من قبل تفتت قاعدته الجماهيرية الكبيرة Masses إلا في مناسبات محدودة في الرياضة مثلا، حيث تظل السوبر بوول الأمريكي تمثل أعلى مستويات المشاهدة الآنية الجماعية تصل إلى 120 مليون مشاهد في آن واحد، وأعلى سعر إعلاني يصل الى 4 ملايين دولار أمريكي للإعلان 30 ثانية لمرة واحدة في عام 2023م وكذلك الألعاب الأولمبية وكأس العالم لكرة القدم.
  5. بالعودة لاضطراب البيئة المحيطة على كافة المستويات المذكورة آنفا نجد أن التقنية غالبا ما تسبق الأنظمة والقوانين والتشريعات في لهاث مستمر وصراع دائم.
أتحدث هنا عن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ فماذا عن المناطق الأخرى المستهلكة للتقنية وليست صناعتها.

وفيما يتعلق بالوضع الإقليمي في المنطقة العربية تحديدا أو ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENA.. والناطقة باللغة العربية فهذه أبرز ملامحه:
  1. اخترع اللبنانيون مفهوما بأن عرب Pan Arab في منتصف السبعينيات من القرن الماضي دعما للصحف اللبنانية المهاجرة لأوروبا لكافة الدول العربية وإصدارات عربية من خارج المنطقة العربية، ثم ما لبث أن تلاشى هذا المفهوم تدريجيا مع نهاية التسعينيات من القرن الماضي مع ظهور الفضائيات العربية في بدايات القرن الحالي، والتي وصل عددها إلى أكثر من ألفي قناة غير مشفرة خلال عقدين من بداية القرن الواحد والعشرين، ثم ما لبث أن ظهرت المنصات الرقمية المشفرة خلال الأعوام الخمس الأخيرة الماضية.
  2. التحول الرقمي للمحتوى في المنطقة العربية المذهل للغاية خصوصا في منطقة الخليج العربي خصوصا في السعودية والإمارات على وجه التحديد وكذلك في مصر وكذلك مع ظهور المنصات الرقمية العالمية والعربية للأعمال التلفزيونية كما أن السينما والترفيه في السعودية فتحا آفاقا رحبة ورواجا كبيرا.
  3. ظهور العديد من الوسائل غير التقليدية والوسائط الرقمية المستحدثة من مواقع الكترونية وخدمات التعامل عن بعد وألعاب الكمبيوتر المختلفة وغيرها من سبل الحياة والمعيشة.
  4. تقدر فئة الشباب في المنطقة العربية بما لا يقل عن 60% أغلبهم من جيل Z من ذوي الاتجاهات الحديثة والآراء العصرية والثقافات المتعددة، وتمثل المرأة النسبة الأكبر فيها لتزيد عن 55% علاوة على نسبة كبيرة من الأطفال دون 15 سنة في المنطقة التي تعد من أعلى معدلات ودرجات الخصوبة أو معدلات النمو الطبيعية.
  5. للأسف الشديد إن كان العالم يتوجه نحو توحيد الجهود للتكتلات الاقتصادية وفقا للمصالح لا القيم نجد عالمنا العربي يزداد تفرقا رغم كل وشائج الصلات عبر التاريخ في مصير واحد مشترك إلى الأبد.
أما على المستوى المحلي لكل دولة عربية على حدة فإن أبرز الملامح وإن تشابه جزئيا مع العالم أو الإقليم يمكن الإشارة إلى ما يلي:
  1. يلعب الاستقرار بكافة مستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ركنا أساسيا في تطور الدولة إعلاميا.
  2. تحرك الجوانب الاقتصادية دفة التطور الإعلامي المذهل في أغلب الدول العربية ولعل من أبرزها دول الخليج العربي وتحديدا في المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر.
  3. تظل مصر الدولة العربية الأكبر كما وكيفا بإمكاناتها وقدراتها وإبداعاتها وبزخم قوتها الناعمة على كافة المستويات الثقافية والأدبية والفنية ورغم كل التحديات الصعبة النموذج الرئيس في المنطقة وللمنطقة.
  4. يظل مفهوم اقتصاديات وسائل الإعلام غائبا أو متغيبا في تحقيق المصالح الوطنية والقومية وأهمها الحفاظ على كيان وهوية الدولة المحلية دون إفراط ولا تفريط، ويظل هذا التحدي الأكبر لمعظم الوسائل المحلية لمواكبة التحديث والتطور وغياب المعلومات المدققة في كل من صناعتي الإعلام والإعلان.
  5. بدء ظهور الشراكات الدولية العالمية مع عدد من الوسائل الإعلامية العربية والمحلية وكذلك الاستحواذ والاندماجات في العديد من المؤسسات الإعلامية.. والتي تشكل تحديا غير مسبوق لأنظمة الإعلام المحلية في المنطقة العربية؛ لذا نجد ظهور هيئات تنظيم الإعلام في كثير من الدول مثل مصر والسعودية وغيرها للحفاظ على الهوية الوطنية والحفاظ على مقدراتها ومكتسباتها، ولعل هذه الهيئات تنجح في احتواء مزدوج يصون الهوية الوطنية وينظم المنظومة الإعلامية الدولية والإقليمية مع تلبية الاحتياجات المحلية لكل دولة على حدة بإذن الله.. ومن رؤى مستقبلية واضحة وملهمة وبناءة.

aabankhar@