زيد الفضيل

بوتين ودرس التاريخ السياسي

السبت - 10 فبراير 2024

Sat - 10 Feb 2024

فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محاوره الإعلامي الأمريكي الشهير تاكر كارلسون بسؤال مخاتل حال ابتداء حواره المهم معه بالأمس القريب على منصة «x»، حيث قال له مباشرة بعد نفي حالة الارتياب من أي هجوم أمريكي مفاجئ: هل نجري برنامجا استعراضيا أم محادثة جادة؟

هنا ظهرت الصدمة على محيا الإعلامي تاكر، الذي لم ينكر دهشته من فحوى السؤال، وأراد أن يستعيد توازنه بضحكة عابرة، لكنه لم يدرك أنه قد وقع ضحية في يد ضابط استخبارات محترف، وسياسي ماهر، سرعان ما اختطفه بأسلوب ذكي حين قوله: كما أعلم فإن تخصصك الأساسي هو التاريخ، ولذلك أرجو أن تسمح لي بأن أزودك بخلفية تاريخية بسيطة لمدة 30 ثانية.

غير أن الـ30 ثانية، تحولت إلى 30 دقيقة، أبحر فيها الرئيس بوتين بشكل غير مخل في دهاليز التاريخ الروسي الذي ابتدأ في القرن التاسع الميلادي، وهو ممتد حتى اليوم.

ولعمري ففي ذلك إسقاط مهم أراده بوتين بدهاء، وكأني به يقول للأمريكان بأن عليكم أن تقرؤوا التاريخ جيدا إذا أردتم المسير في القارة الأوروبية، ولا يعفكم حداثتكم الوجودية من استيعاب درس التاريخ والجغرافيا، وتأثير كل منهما وجوديا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، وأن للشعوب ذاكرة يصعب تغييرها بجرة قلم، ويستحيل إلغاؤها بقرار لا يأخذ في حسابه مقاييس الجغرافيا ومركزية التاريخ.

في جانب آخر فقيمة هذا السياق الذي فرضه الرئيس بوتين منذ الوهلة الأولى كامن في سيطرته على الحوار من أول دقيقة فيه، وتمكنه من جذب الإعلامي الأمريكي لثنايا ما يريده هو، لا ما يريده المقدم ومَن كان وراءه، وحتما فالرئيس يدرك أن هناك أجندات خفية أرادها الأمريكي بوجه أو بآخر من وراء هذا الحوار، لا سيما وأنه أول ظهور له أمام المشاهد الأمريكي من بعد اندلاع حرب أوكرانيا.

هذه الحرب التي انغمست فيها الولايات المتحدة الأمريكية بكل قوتها، وجلبت معها القارة الأوروبية، بل وأخرجت سويسرا من حيادها في مظهر ينم عن غرور كبير وشعور فادح بالعظمة، وألا أحد في الكون يمكن أن يقف أمامها، وكانت الآلة الأمريكية تراهن على أن الروس لا يزالون بالصورة التي ظلت ثابتة في مخيلتهم، تلك التي مثلها زعماء الاتحاد السوفيتي، ولم يدركوا أن الحال قد تغير، وأن العالم ينبثق عن روح جديدة تتوافق مع قرن جديد، بمواصفات جديدة، وقوى متجددة ليس للولايات المتحدة سيطرة عليها أو تأثير.

أشير إلى أن العبث السياسي للولايات المتحدة الأمريكية آخذ في التزايد، وآخذ في الانكشاف، فأمريكا التي رحب بها العالم منتصف الأربعينيات من القرن الماضي باعتبارها منبرا للحرية ومدافعة عن الحقوق، باتت هي المستبدة الغازية التي مارست سطوتها واحتلالها لعديد من الدول، وصارت مدافعة عن حكومات ظالمة مستبدة كما هو الحال مع حكومة الكيان الإسرائيلي، التي تمارس حرب إبادة منذ أربعة أشهر بحق شعب أعزل، بدعم ومساندة عسكرية وسياسية من قبل الحكومة الأمريكية، والعجيب أنها على استعداد لأن تحرق المنطقة والعالم بسبب موقفها الداعم لإسرائيل، لذلك لم تجد أي مساندة إقليمية ودولية حقيقية في صراعها المسلح غير المتكافئ مع اليمن وعسكرتها للبحر الأحمر، في الوقت الذي كان يمكن تهدئة الملاحة الدولية بوقف الحرب في غزة، وفتح الحدود للمساعدات الغذائية والطبية، ووقف حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل ضد المجتمع الفلسطيني، وتأييد الرؤية السعودية الاستراتيجية لإحلال السلام في المنطقة، بالضغط على إسرائيل للقبول بحل الدولتين، الذي يمكن الفلسطينيين من إقامة دولتهم على حدود 1967م وأن تكون عاصمتها القدس الشرقية.

ختاما، إنه التاريخ وهي الجغرافيا التي يصعب إغفالهما حين اتخاذ أي قرار سياسي، وهو ما أشير إليه مرارا، وأرجو أن يتنبه له السياسي حين يتخذ قراره، وقديما قالوا: جارك القريب ولا أخوك البعيد، إدراكا من آبائنا بفطرتهم لحقيقة التاريخ ومركزية الجغرافيا.

zash113@