شاهر النهاري

مياهنا الجوفية تنتهك

الثلاثاء - 06 فبراير 2024

Tue - 06 Feb 2024

خزائن بحيرات عذبة كامنة في باطن أعماق الصخور الجوفية في وطننا انتهكت وضاق وتسارع مصيرها، بهجمات الحفارات الارتوازية الجائرة، بعد أن كانت مستكينة على عمق آلاف الأمتار، ومئات الأعمار، فانتزع عمرها السحيق وأهرقت هدرا حول جذع نخلة تتبخر بعدها، قيمة وتاريخا ووجودا.

ألا يحق لنا أن نتساءل عن مستقبل أجيال لاحقة سيتمنون قطرتها ندرة؟ ومهما هطلت أمطار الفصول، فإنها ستعجز عن استعادة كنوزها ورطوبتها في عمق طبقات نخلت كالغربال.

طبقات أرض صحرائنا تتعرض لأشنع وأقسى عمليات هدر للمياه الجوفية، وهي قوام كينونة الحياة، يزيدها الجور جفافا وملوحة، وتكاثر صدوع وشقوق وانزلاقات طبقات جيولوجية، ترفع سخونة الطقس، وتوقد خامد البراكين وتستفز الزلازل، بانتهاك «هيدرولوجيا» اللب.

يا عالم، الصحراء تظل صحراء وتزداد تصحرا كلما بالغنا في استنزاف مياهها الكامنة، وأغرقنا بها السطح لزراعات خضرية وموسمية وقتية، تبخر كنوزها وتجبرها على مغادرة الوطن ضمن قوافل الريح والسحاب، مخلفة الرماد.

أبناؤنا، وأحفادنا سيبكون يوما قدر ما استنزفناه من خزائن أرضنا الطيبة، وقدر استهانتنا بعلوم الصخور والجيولوجيا، وتفريطنا في مياه أصيلة مباركة من المفترض حفظها لهم رصيدا طبيعيا، يحميهم الجفاف، ويهبهم الطقس المعتدل والرطوبة وحياة تطري مستقبلهم.

من أجل الأجيال القادمة، نتمنى أن يتوقف هذا الهدر الجائر المتهاون، وأن يتم منع حفر الآبار الارتوازية العميقة، والتي يتسابق على حفرها المزارعون، حتى بلغت أعماق صخور صفيحة الدرع العربي، ونثرت مكنونها وخلخلت صلابتها، وصنعت في صخورها خروم هدر مهلكة، لا يمكن معالجتها، ولا وقف نزيف عذبها القاتل.

من أجل الأجيال القادمة، لا بد من قوانين سريعة عقلانية علمية حاسمة واعية بما يتراكم بأرضنا من أضرار لطبقات التربة السطحية، وطبقات جيولوجيا الصخور العميقة، ومكامن المياه، والبيئة السطحية، والطقس المتمادي باللهيب مهما حاولنا ترطيبه برشات الأمطار الاصطناعية منزوعة البركة.

الرؤية الحالية لوزارة البيئة والمياه والزراعة: «أنها معنية بتحقيق استدامة البيئة والموارد الطبيعية وتحقيق الأمن الغذائي، مع دعم حركة الزراعة في المملكة بطرح برامج متعددة ودعم مالي للمزارعين».

وهذه رؤية قد تكون مناسبة قبل عدة عقود، ولكن العلوم والوسائل والبدائل تتقدم، والتخطيط الاستراتيجي السليم يفرض نفسه، وطرق تدبير الأمن الغذائي يمكن تطويرها وتنويع مصادرها، فالصحراء لا يمكن أن تنقلب جنائن عدن منتجة وكأنها على نهر أزلي، وكل عناد لفعل ذلك يأتي على حساب الأرض والبيئة والإنسان.

إبقاء الطبقات الجوفية سليمة متوازنة بعيدة عن التخريب، ولو تم بعد فترات من الهدر، هو الأولوية المثلى لهذا الوطن الصحراوي.

والوزارة مطالبة بدراسات علمية وطنية حديثة حقيقية شفيفة يديرها علماء متخصصون في شتى مجالات علوم ومعارف البيئة والجيولوجيا، والتربة والزراعة، وغيرها من التكاملية البيئية لتغيير النهج الحالي، والانتقال برؤية الوزارة للمستقبل متواكبة مع ركب رؤية السعودية 2030 وما سيليها بنظرة أبعد وأقوم نظريا وفعليا وبحرص ووعي، وبما ينقذ ويديم ويعيد التوازن للأرض والغلاف الجوي، وبما سيشكرنا عليه أحفادنا مستقبلا.

مقالي هذا رجاء، وأملي في دولتنا عميق باستجابة فورية لوقف الهدر وإصلاح العوج بنوايا أخيار حينما يفطنون للخلل يعترفون ويتراجعون، ويعيدون الدراسة والتخطيط، وينهضون ويطورون، ويكتبون ديمومة ارتواء رخاء المستقبل الوطني القادم.

shaheralnahari@