عبدالله العولقي

الاقتصاديات الحديثة ونهاية الأيديولوجيا

الاثنين - 05 فبراير 2024

Mon - 05 Feb 2024

في خضم الحرب الباردة الأولى كانت الأيديولوجيا هي عنوان تلك الحقبة الزمنية، حيث تسيدت الموقف الإعلامي حينها بثنائيات متصارعة، (الرأسمالية / الاشتراكية) (الديمقراطية / المركزية) (الانفتاح / الانغلاق) (الشرق / الغرب) (الحرية / الاستبداد)، وهكذا.. بيد أننا في المشهد الحالي والذي قد تمثله المرحلة الثانية من الحرب الباردة نلحظ غياب المشهد الأيديولوجي المؤطر لصالح ظاهرة جديدة تمثل حالة معاكسة إلى حد ما قد نطلق عليها المرونة الذاتية النفعية أو البحث عن المصلحة البراغماتية المحضة بعيدا عن الالتزام تجاه أي مؤطرات فكرية أو أيديولوجيا أو حتى قيم تاريخية أو ثقافية وهكذا.

الحديث الآن عن الصراع الاقتصادي بين الكبار، الغرب الذي تمثله الولايات المتحدة ومعها أوروبا، والشرق الذي تمثله الصين وروسيا، لكن الصورة العامة بطبيعة الحال قد تشهد تغيرات مفاجئة تعيد مرحلة الأيديولوجيا إلى الواجهة مرة أخرى، لا سيما في ظل وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم في العديد من الدول الأوروبية وعودة الأصوات القومية والشوفينية والدوغمائية الفكرية.

نعود إلى توصيف الحالة الجديدة أي المرونة (السياسية / الاقتصادية) النفعية، ففي بداية القرن الحالي أدركت بكين وموسكو أن انتصار الغرب في الحرب الباردة الأولى كان نتاجا مباشرا للإيجابية التي تمنحها الحرية الرأسمالية الاقتصادية، فتم التنازل عن الأيديولوجيا الاشتراكية لصالح هذه التجربة الناجعة، واليوم نجد الصين تتبوأ المركز الثاني اقتصاديا بعد الولايات المتحدة، بينما نجد روسيا في المركز الثامن عالميا وتحقق تقدما ملموسا رغم العقوبات الاقتصادية الخانقة التي فرضها الغرب عليها!!

في المقابل نجد أن الولايات المتحدة أدركت أيضا الجانب الإيجابي لدى الإدارة المركزية وقدرتها على صناعة القرار الحاسم في تجربة الشرق (الصين وروسيا)، ففي الغرب مثلا هناك عوائق القيم الديمقراطية أو قيم الحرية الاقتصادية للأسواق، والتي منحت ميزة القرار الرسمي بصورة غير مباشرة لصالح الشركات العملاقة، بمعنى أننا في السابق كنا نسمع الاقتصاديين يقولون إن السياسة تقود الاقتصاد في الشرق كحالة تخلف بينما يقود الاقتصاد السياسة في الغرب كحالة تقدم، لكننا في المرحلة الآنية نجد أن إدارتي ترمب/ بايدن مثلا قد تخلتا نسبيا عن مصالح الشركات الأمريكية الكبرى لصالح السياسة وهذه منهجية شرقية محضة كما يقال!!

في عهد إدارة ترمب طالب الرئيس شركة أبل (أقوى شركة أمريكية كقيمة سوقية) بإغلاق مصانعها ونشاطها التجاري في الصين ونقل تصنيعها بالكامل إلى الولايات المتحدة، وفي عهد الرئيس الحالي وبعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية قرر بايدن إغلاق وسحب جميع الشركات الأمريكية داخل روسيا كنوع من الحصار الاقتصادي، والتي كان من بينها شركة المأكولات الشهيرة ماكدونالدز والتي تضررت كثيرا من هذا القرار المفاجئ حينها!!

خاتمة القول.. غياب الأيديولوجيا عن مشهد الحرب الباردة الثانية وارتداء جميع الأطراف المتصارعة لباس البراغماتية النفعية حول المصالح إلى شبكة متداخلة تصل أحيانا إلى حد التناقض، فمثلا، على الرغم من حدة الصراع الاقتصادي بين واشنطن وبكين يصف بعض الاقتصاديين حالة المنافسة بينهما بالحالة التكاملية، فأي ضرر أو انهيار يلحق بطرف منهما هو بالتأكيد خسارة مباشرة وفادحة للطرف الآخر، بمعنى أن إدارة البيت الأبيض للملف الصيني لا تسعى أبدا إلى هزيمة النموذج الاقتصادي الصيني بقدر ما تسعى إلى كبح جماح التنين وإرهاص أحلامه، وبالتالي إبقاء الاقتصاد العالمي تحت إدارتها وسلطة قيادتها.

albakry1814@