عبدالله سعود العريفي

يكبر الصغار وينجلي الغبار

الثلاثاء - 30 يناير 2024

Tue - 30 Jan 2024


ضاقت بها الدنيا وشعرت بوحدة وأحست بوحشة وعانت من غربة وصارت في حاجة إلى من يسندها ويقف بجوارها ويعينها؛ فقد توفي من كان يعولهم ويتكفل بمعيشتهم وينفق ويصرف عليهم وترك لها أطفالا صغارا، كانت في ظل الزوج ورعايته وعنايته وكنفه واهتمامه؛ فصارت أرملة اخترقت القتامة جميع نواحي حياتها وتسللت إليها؛ فصار الحزن لا يبتعد عن نفسها وأصبحت الحسرة لا تفارق وجهها وفقدت الشعور بالارتياح وغابت عنها ضحكات أسارير الوجه وسط طريق مجهول وممر موحش ومسلك كئيب وقفر لا ماء فيه ولا كلأ، تقاذفتها أمواج الحياة بأحداثها؛ فحملت بالأعباء وأرهقت بالأثقال وأنهكت بالهموم وأثقلت بالأحزان.

اعتادت إخفاء أساها ودأبت على كتمان آلامها أمام أطفالها حتى لا يؤثر ذلك عليهم وحتى لا يبتعد عنهم الارتياح ولا تفارقهم براءة الطفولة، وعندما تسلمت المسؤولية كاملة وصارت هي الأم والأب في آن واحد بنت في قلبها الكبير وشخصيتها المترعة بالخلق الرفيع والأدب الجم يقينا ورسوخا وثباتا وثقة لتتحدى كل الأخطار التي تقابلها؛ فكانت عظيمة في أعين أطفالها وأثبتت مقدرتها وبراعتها وكفاءتها في تجاوز كل الأزمات وتخطي جميع العقبات والتغلب على أنواع الصعوبات.

وقعت في شدائد كثيرة وقاست مصائب عديدة واحتملت مصاعب كبيرة؛ فمع آلام فقد الأب وأوجاع ملاحقة حالات الغم والكآبة وآلام ما يخالج نفسها الأبية من انزعاج وعدم ارتياح وفقدان الفرح والسرور تجد عسرة وتصادف ضيقا وتلاقي شدة في الحصول على المال الذي يكفي حاجتها وحاجات أطفالها، عانت من أبناء زوجها فقد تناسوا إخوتهم الصغار مع أنه من المفروض أن تكون الإخوة إضاءة في سواد الليل وإشراقة في ظلام العتمة ونورا في غلس الدجى وسندا يوم تقل السنود وساعدا حينما تبخل الدنيا بالسواعد وعضدا عندما تشح الأيام بالعضيد وملاذا إذا حرت شموس الهجير، إلا أنهم لم يسألوا عن الدموع في عيون إخوتهم عندما لا يستطيعون التعبير عما بدواخلهم من كلمات ومشاعر يصعب وصفها ولا عن نظراتهم الحزينة التي تبحث عن أمل يطل على حياة مشرقة؛ فكان الكره يعمي عيونهم والطمع يغري نفوسهم والكبر يغوي قلوبهم وتمادوا إلى أن قاموا بالغش وفعلوا الخدع وصنعوا الحيل وعملوا الألاعيب من أجل منع تلك الأرملة وأطفالها من الميراث وحرمانهم منه.

أدركت بحكمتها بأن من يمنع النفع عن إخوته ويحول دون إتمامه ويعيقه ويجعله عسيرا فلا يمكن أن يقدم خيرا أو منفعة وإن قدم شيئا فإنه لا يدوم ويكون مرتبطا بوقت محدد مع الارتياب في صفائه والشك في نقائه والاشتباه في خلوه من الشوائب مع اشتماله على منفعة وعدم خلوه من مصلحة؛ فاضطرت للخروج للعمل للصرف على أطفالها ولسد حاجاتهم؛ فكانت تستيقظ في الصباح الباكر آملة في يوم جديد يحمل الأمل من خلال سعيها للعمل الذي تحصل منه على الرزق الذي يساعدها على توفير حياة مناسبة لأطفالها وهي تردد: «يكبر الصغار وينجلي الغبار»، محاولة النهوض والمثابرة والوقوف والثبات أمام أنواع التحديات لتكون راسخة أمام المسؤوليات التي طوقت عنقها؛ فصارت قدوة يضرب بها المثل حين قامت بتربية أطفالها وتعليمهم وتأديبهم وتهذيبهم على أفضل ما يكون؛ فلك – أيتها الأم العظيمة – كل تقدير وتوقير وإعزاز واحترام على صبرك وتحملك وتضحياتك وبذلك بسماح وعطائك بسخاء.