حسن علي القحطاني

العتب على التربية والأخلاق

الاحد - 28 يناير 2024

Sun - 28 Jan 2024


مما يثير التأمل أبيات الشعر التي رواها أبو تمام في حماسته منسوبة إلى العباس بن مرداس يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزیر
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخطئ ظنك الرجل الطرير

والطرير ذو الهيئة الحسنة، وسواء كان هذان البيتان للعباس بن مرداس كما يزعم أبو تمام أو كانا لغيره كما يقول شارح الحماسة، فما يثيرني؛ هل كان قائل البيتين رجلا قميئا معزولا قحما؟، لا تأسر الأذن فصاحته، ولا تملأ الصدور هيبته، فهو ينافح بهما عن نفسه، ويحذر الذين يستخفون به ولا يحسبون له حسابا بأن في برديه أسد هصور، يثب في مكمنه، ويضرب ضربته حينما يحرج أو يستثار، أو كان رجلا قد جرب الناس وعرف الدنيا، فأصبح لا تخدعه المظاهر، ولا يتسرع في الحكم عليهم قبل أن يجربهم، فرب صلف تحت الراعدة وقد يكذب الخُبر الخَبر، ومهما كان من الأمر فإن هذين البيتين تسلطان الضوء على خطأ كثيرا ما نقع فيه، وهو الحكم من الظاهر على الباطن، فكثيرا ما نتأثر في حكمنا على الأشخاص وملكاتهم العقلية ومناقبهم الأخلاقية بالنظرة الأولى.

يروى المراكشي أن أبا بكر بن أبي العلاء زهر وهو وزير وابن وزير في العصر الأندلسي كان مع أحد نساخ الكتب، فدخل عليه رجل بسيط الهيئة، عليه ثياب رثة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة لفها من غير إتقان، فحسبه من العامة جاء لحاجة، سلم وقعد، وقال (يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان)- كنية والده-، فرد متثاقلا جوابه (هو نائم)، ثم سكت ساعة وقال (ما هذا الكتاب الذي بأيديكما)، فقال له هو كتاب الأغاني، فقال إلى أين بلغ الكاتب (الناسخ) منه؟، فأجابة ساخرا؛ ضاحكا (بلغ موضع كذا..) فسأل (وما لكاتبك لا يكتب؟)، فأخبره بأن الكاتب لم يحضر الأصل ليطابق به أوراقه، فقال (يا بني خذ كراريسك وعارض- أي طابق- كنت أحفظ هذا الكتاب في مدى صباي، فتبسم من قوله، فلما رأى تبسمه قال (يابني امسك علي)، يقول: فأمسكت عليه، وجعل يقرأ فوالله ما أخطأ واوا ولا فاء، وقرأ هكذا نحو كراسين، فاشتد عجبي وقمت مسرعا حتى دخلت على أبي فأخبرته، ووصفت له الرجل، فقام كما هو من فوره، وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس حافي القدمين، لا يرفق على نفسه، وهو يوسعني لوما، حتى ترامى على الرجل وعانقه، وجعل يقبل رأسه ويديه ويقول (يا مولاي اعذرني، فوالله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة)، وجعل يسبني، والرجل يخفض عليه ويقول (ما عرفني)، وأبي يقول (هبه ما عرفك، فما عذره في حسن الأدب؟) ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به، فتحدثا طويلا، ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيا حتى بلغ الباب، وأمر بدابته التي يركبها فأسرجت له وحلف عليه ليركبنها ثم لا ترجع إليه أبدا، فلما انفصل قلت لأبي (من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟)، فقال (اسكت ويحك، هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون...).

أخيرا، يكون عذر الوزير ابن الوزير في استخفافه بابن عبدون أنه كان حينذاك في زهوة الشباب، لم تثقفه الحوادث، ولم تحنكه التجارب، لكن بقي العتب على التربية والأخلاق.


hq22222@