عبدالحليم البراك

نحن والتجاهل

الاثنين - 22 يناير 2024

Mon - 22 Jan 2024


نحن نتجاهل التجاهل نفسه، فلا نعرف ولا ندرس التجاهل برغم أنه جزء من حياة الإنسان، هذه الزاوية المعدومة في عقل الإنسان يعمل على تكريسها بالتجاهل المقصود لحزمة أسباب لا تتوقف، أولا لأن التجاهل جزء من تركيب الإنسان السلبي، وربما يجدر بالإنسان ألا يتجاهل التجاهل بالدراسة والبحث والتفكير؛ لأنه سيفوته الشيء الكثير مما يستحق الدراسة والتأمل بل وتطوير الإنسان بسبب التجاهل، وما انتباه نيوتن –على سبيل المثال – للتفاحة وهي تسقط إلا فضيحة عن قرون بل مئات القرون من تجاهل الإنسان لظاهرة أمام عينيه اكتشفها إنسان!
إذن ما هو التجاهل؟ ولماذا التجاهل؟ وهل يمكن للتجاهل أن يكون علما محل دراسة وتأمل؟! وهل يمكننا أن نقاوم هذا التجاهل لنحصل على مزيد من الفتوحات العلمية والفلسفية في عصر الإنسان الزاهر؟ وهل يمكننا حصر ما نتجاهله فيمكننا بذلك بذل الجهد الإنساني – المحدود بطبعه – ليركز على أكثر النقاط أهمية مما تجاهلناه ونستمر بتجاهل الأمور الأخرى ما دمنا لا نملك الوقت والموارد لكشفها، وهل ستعتبر مجهولة لو فقط أحطنا بعناوينها؟!
الحقيقة أن الإجابة على هذه الأسئلة صعب للغاية، فأنت تدرس في هذه الحالة اللاموجود لو وجد، وإمكانية إيجاد اللاموجود، وماهي أدوات اكتشاف اللاموجود هذا لينتقل من حيز اللاوجود المتجاهل إلى حيز الموجود. فنحن نتجاهل ما نجهله، ونتجاهل إشاراته أيضا؛ كما لو لم يكن موجودا، أو لأنه استعصى مشاهدته، لذلك يقول «دونالد رامسفيلد»: «إن ما لا يعرفه الإنسان يفوق بكثير ما يعرفه الإنسان ملايين المرات» هذا يعني أن ما لا نعرفه ولا نعرف أننا لا نعرفه تم تجاهله من قبل الإنسان بغض النظر على القصدية في هذا الأمر، والذي لا شك فيه أن الإنسان عندما يتأمل التجاهل لديه وأدواته وآليته حتما سيقاوم هذه الأدوات ويعمل على تقليلها أو تجنيبها أو تحييدها بأمل أن يكتشف عوالم جديدة، وما الثورات العلمية والفلسفية وحتى الدينية التي صارت في العالم على مر القرون الفائتة إلا ثورة في الحقيقة على الجهل والتجاهل الذي مارسه الإنسان، وما التأمل العقلي إلا تفتيح العقل على ما تم تجاهله، ولذلك يمكن دراسة التجاهل الذي يمارسه الإنسان حوله ليحقق المزيد من المكاسب خاصة إن علمنا (نحن لا نجهل هذا لكن يتم تجاهلها) أن علوما لا تزال متخلفة بشكل كبير جدا مقارنة بالعلوم الأخرى مثل العلوم النفسية والروحية.

التجاهل يعني صنع العدم، والفروقات الفردية في الإنسان تظهر بوضوح هذا التجاهل، وهذا أيضا يكشف التجاهل الجمعي لدى الإنسان والذي يمارسه بشكل فطري – إن صحت الكلمة – لأن التجاهل تم تأصيله فطريا في الإنسان، فأنت لا ترى تفاصيل الهواء وما يحتويه ولا مكونات الصخرة، ولا تنتبه للروح والنفس الذي في داخلك ولا تدرس الحزن وإن كل ما يقال عنها لا يزال في حيز التأمل ولم يصل لمرحلة المختبر والعلم وهذا ما يجعل الأمر في حيز التجاهل هو الآخر على سبيل المثال.

ومهما يكن من أمر، التجاهل إن كان يصنع العدم فهو لا يكتفي بذلك بل يكرسه فهو عدم آخر ما لم يتم اكتشافه ومعرفته.

وسيبقى الإنسان يشتكي من قلة الموارد بما في ذلك الموارد الذهنية بدعوى أن عقل الإنسان المحدود مضطر أن يتجاهل؛ لأن الوعاء الإنساني ذو صفة محدودة بما في ذلك عقله فإنه لا ولن يستطيع استيعاب كل شيء كل هذا لا يعني أن يترك صفته الإنسانية الخاصة في التجاهل متجاهلا إياه؛ لأن ثمة آليات لو تم التعامل معها لقتل هذا التجاهل وانفتحت آفاق جديدة للإنسان بما فيه ذلك آفاق غير معروفة حتى الآن وبذلك يستطيع.


Halemalbaarrak@