بندر الزهراني

مكافأة نهاية الخدمة.. أسعد أم سعيد!

الاحد - 21 يناير 2024

Sun - 21 Jan 2024


في فترة من الفترات كانت بعض الجامعات تلزم مبتعثيها بقرار ابتعاث مزدوج للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه تواليا، وهو ما يضمن عدم عودة المبتعث ومباشرته العمل على وظيفة محاضر بعد حصوله على درجة الماجستير، والهدف المعلن لمثل هذا القرار هو الإبقاء على المبتعث في مقر بعثته وعدم عودته قبل إنجاز مهمته المبتعث لأجلها، ولئلا يشعر بالتكاسل عن دراسة الدكتوراه أو يمتنع عنها بالكلية إذا ما عاد وباشر عمله، وهذا هدف ظاهره جيد بلا شك.

إلا أن لهذا القرار آثارا ناجمة عنه، وتبعات مترتبة عليه، يرجع أكثرها لدواع إدارية صرفة، منها ما هو هامشي، كعدم تراكم معاملات الابتعاث ودخولها في نفق البيروقراطية المظلم، أو إشغال الجامعات بما هو فوق طاقتها وتحملها الإداري، ومنها ما هو جوهري وبعيد المدى، كحرمان الأستاذ الجامعي من الحصول على مكافأة نهاية الخدمة إذا ما رغب في التقاعد المبكر قبل مرور عشرين عاما على شغله لوظيفة أستاذ مساعد، وهو ما ينص عليه نظام مكافأة نهاية الخدمة.

وهذا الإجراء - أعني قرار الابتعاث المزدوج - لا يخدم فئة كبيرة من مبتعثي الجامعات على وجه التحديد؛ لأن مسألة الإلزام بالابتعاث المزدوج مسألة ليست نظامية بالمقام الأول، وليست صحية في إطارها العام، خاصة إذا ما نظرنا لعوامل شكلية قد تواجه المبتعث في الجامعة المبتعث إليها، كالحصول على قبول للدراسة غير مشروط، أو اجتياز بعض الاختبارات المطلوبة، وهناك عوامل جانبية أخرى قد تطرأ على حياته في مقر إقامة بعثته، كغلاء المعيشة، والتأقلم على ظروف الحياة هناك.

من النواحي النظامية، وعلى حد علمي المتواضع، لا أعلم في أنظمة التعليم العالي ولوائحه التنفيذية قديما أو حديثا نصا نظاميا يعطي إدارات الجامعات الحق في فرض مثل هذا القرار، فضلا عن معاقبة من يخالفه بالحرمان من الابتعاث أو المثول لتحقيق إداري ونحو ذلك، وإنما هو اجتهاد شخصي وربما قرار ارتجالي من إدارة جامعة ما، قلدتها في تطبيقه بعض الجامعات، وعارضتها جامعات أخرى، ما يعني أننا قد فقدنا في هذه الحالة مبدأ المساواة في التعامل مع موظفي قطاع حكومي واحد.

يحتج بعض من دعاة ومنظري مثل هذا القرار بقلة وظائف درجة المحاضر، وأن استحداث مثل هذه الوظائف الأكاديمية في ذلك الوقت لم يكن بيد الجامعة أو الجهة التي تتبعها، وهذا - من وجهة نظري - ليس عذرا كافيا، فليس من الصواب أن تشرع الإدارة لنفسها شيئا بملكها أو محض إرادتها ولم يقره النظام، وليس من حقها فرضه مستغلة نفوذها الإداري والسلطات الممنوحة لها، ويحتجون - إذا ما ذكر النظام - بأن لكل جامعة الحق في تفسير الأنظمة واللوائح التنفيذية بما تراه مناسبا لها، بل من حقها سن لوائح داخلية تميزها عن غيرها، ولا بأس بهذا، إذا ما طبقت كل الجامعات قرار الابتعاث المزدوج على كل مبتعثيها، لكن هذا لا يحدث!
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن - على سبيل المثال - كانت تلزم معيديها بدراسة الماجستير ضمن ما هو متاح لهم من برامج الجامعة، ثم بعد ذلك تقرر ابتعاثهم لجامعات تختارها لهم، أو تنصحهم بها ليستكملوا دراسة الدكتوراه بعدئذ، وهذا لعمري تصرف سليم، وتطبيق أمثل لمسألة سن اللوائح الداخلية وتفسير الأنظمة العامة، وفيه حماية لحقوق المبتعث على المدى البعيد، وهناك جامعات أخرى - بعضها مازال ناشئا - لا تمانع من عودة مبتعثيها لأي سبب كان، ولا تعارض منحهم وظيفة محاضر إذا ما عادوا بالماجستير، ثم تعيد ابتعاثهم لدراسة الدكتوراه مرة أخرى، وهذا فيه تيسير على المبتعث، ومنحه فرصة الاختيار بما يتوافق مع ظروفه، ودون الإضرار به ولو على المدى البعيد.

مجلس التعليم العالي عندما سن مكافأة نهاية خدمة الأستاذ الجامعي راعى مسائل عدة، منها أن يتقدم لشغل وظيفة أستاذ مساعد ممن لم يكن موظفا بالجامعة، فجعل استحقاقه للمكافأة مربوطا بمدة العشرين عاما تبدأ من تاريخ حصوله على الوظيفة، وهذا بطبيعة الحال ليس كمن أجبرته جامعته على الابتعاث المزدوج، ولعل سكوت النظام عن هذه الحالة سكوت ليس مقصودا؛ لأن الابتعاث المزدوج لم يكن وقتها معروفا على نطاق واسع، أو لم تظهر آثاره الجانبية بعد، وهذا ما يجعل إلغاءه ضرورة ملحة، ومعالجة آثاره مهمة أساسية لمجلس شؤون الجامعات!
والضرر - من وجهة نظري - ليس مقصورا على مبتعثي الجامعات من ذوي الابتعاث المزدوج، لا، بل يتعداهم إلى كثير من المعيدين، فكثير من هؤلاء يكون قد حصل على درجة الماجستير وربما درجة الدكتوراه ضمن العشر سنوات المتاحة له، وهي المدة النظامية للمعيد كي يغير من وضعه الوظيفي، ومع ذلك لا تتم ترقيتهم إلى وظيفة محاضر، ما يعني خروجهم من (المولد بلا حمص)، وضياع فرصة المكافأة عليهم - إذا ما رغبوا في التقاعد المبكر - لأسباب لا دخل لهم فيها.

قد يقول قائل: يا دكتور بندر الأستاذ الجامعي لا يتقاعد مبكرا إلا في النادر، بل لا يتقاعد عند السن النظامية (إلا بألف غلبة) ويطالب بالتمديد مرة ومرتين وثلاثة، وربما تحول من متقاعد إلى متعاقد، فالأمر عنده سيان، ومكافأة نهاية الخدمة تحصيل حاصل بالنسبة له، وأقول هذا صحيح، ولكن في ظل استقلال الجامعات وتطور أنظمة الموارد البشرية أرى أنه من المفيد للمؤسسة التعليمية السير في أنظمة العقود بما يتوافق مع الأنظمة الجديدة، ويحقق لها الحيوية والنشاط، وفي المقابل يخلصها من عبء تطوير الكوادر البشرية القديمة.

أرجو أن يكون هذا الموضوع محل نقاش واهتمام مجلس شؤون الجامعات، وبالتالي اتخاذه لقرار يلغي الابتعاث المزدوج أولا، أو يجعله مرنا نوعا ما، ومن ثم يتخذ قرارا آخر يمنح أساتذة الجامعات من مبتعثيها أو معيديها مكافأة نهاية الخدمة اعتبارا من تاريخ حصولهم على درجة الماجستير لا من تاريخ تعيينهم على وظيفة أستاذ مساعد، ففي هذا تحقيق لمبدأ المساواة، وفيه مرونة مطلوبة لطالبي التقاعد المبكر، والحديث في مثل هذه الموضوعات (ذو شجون) كما يقول ضبة بن أد، ولعلي في هذا المقام استعير قولته الأخرى وأقول: مكافأة نهاية الخدمة.. أسعد أم سعيد!



@drbmaz