المحاكمة
الثلاثاء - 16 يناير 2024
Tue - 16 Jan 2024
كلما فتحت إذاعة القرآن الكريم أجد القارئ يتلو آيات تتحدث عن بني إسرائيل، وانتبهت إلى أن الحديث عنهم في القرآن أكثر من غيرهم من الأمم، وذلك لأن غالب الرسل المذكورين فيه كانوا من بني إسرائيل، وأيضا لأن بعض بني إسرائيل زمن نزول الرسالة المحمدية في الجزيرة العربية كان لهم موقف معارض للدين الإسلامي الجديد، فذكر القرآن قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم، للبرهنة على صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وفي الوقت نفسه لإقامة الحجة عليهم.
إذ لعن الله الذين كفروا منهم «بما عصوا وكانوا يعتدون».
توافق مع الاستماع للآيات مجموعة أخرى من الأحداث. فقد كنت أقرأ رواية كتبها أسامة الشاذلي عنوانها «أوراق شمعون المصري». تأتي في 635 صفحة لتحكي عن تيه بني إسرائيل في صحراء «سين»، ولحظة خروج اليهود من مصر مع سيدنا موسى، عبر سرد تاريخي وديني مشوق، يفصّل في أسطورة الأرض المقدسة، وفكرة الإله والدين والشريعة في الديانة اليهودية، خلال قصة بطل الرواية الذي ولد من أب عبراني وأم مصرية.
وحتى تزداد غصّة الجرعة اليهودية هذا الأسبوع، تابعتُ المرافعة القانونية التي تجري في محكمة العدل الدولية في لاهاي منذ الخميس 11 يناير، حيث فتحت الدعوى القضائية المقدمة ضد إسرائيل من دولة جنوب أفريقيا، الباب على مصراعيه إزاء احتمال وقف مشروع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ولفتت الأنظار إلى النية المبيتة لتدمير غزة برعاية أعلى مستوى في إسرائيل. وطالبت الدعوى بضرورة وقف الهجوم العسكري الذي بدأ منذ 7 أكتوبر، وأودى بحياة 23,210 فلسطينيين، 70% منهم نساء وأطفال، وناقشت القيود المفروضة على تمرير المساعدات الإنسانية.
يترافع في القضية من جنوب أفريقيا فريق قانوني مكون من 9 محامين بارزين ومتخصصين في القانون الدولي وحقوق الإنسان من العالم.
أما فريق القضاة فهم من 15 دولة مختلفة من الولايات المتحدة وروسيا والصين ولبنان والمغرب، بمشاركة قاضيين من جنوب أفريقيا وإسرائيل، لضمان النزاهة والشفافية على حد قولهم؟!
قد تستمر المحاكمة شهورا وربما سنوات. وقرارات المحكمة ستكون بالغالبية، ونهائية وغير قابلة للاستئناف. لكن دون آلية لتنفيذها. يعني أن رأي 8 قضاة يكفي لتمرير القرار.
تأتي المحاكمة بعد فشل المجتمع الدولي في وقف العدوان، إذ تم الدفع بالمعركة القانونية إلى الساحة الدولية، بالتنسيق مع المنظمات الحقوقية التي تعرف دهاليز وخبايا القوانين الدولية، ولديها خبرة في كيفية التعاطي مع مثل هذا الملف الحرج. كانت المرافعة الاستباقية قوية ومفصلة.
وجه فيها الاتهام لإسرائيل وقياداتها بارتكاب جرائم تتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي وقّعت عليها جنوب أفريقيا وإسرائيل ودول أخرى.
ويوثق ملف الدعوى لتفاصيل مهمة وأدلة دامغة بالمستندات والتصريحات والأفلام والصور، تثبت ارتكاب إسرائيل للجرائم، وتدين الدول الصديقة لإسرائيل التي دعمت استمرار 3 أشهر من القصف والإبادة والتهجير والتجويع.
لب المشكلة يكمن في ازدواجية تعامل الدول العظمى مع الدول الأضعف، وفزّاعة معاداة الساميّة التي تنصبها «مهترئة» في حقول من يجاهر بالعداء لإسرائيل. وعندما يتعلق الأمر بجرائم الاحتلال تتخلى هذه الدول عن المفاهيم والمثل الإنسانية، وتلوي عنق القوانين الدولية التي وقعت على معاهداتها بالفيتو.
وإذ تغمض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أعينها عن بشاعة جرائم إسرائيل، تأتي المحاكمة ترسيخا لتوجه جديد في التعامل مع ازدواجية الغرب عبر إثبات التجاوزات التي تخرق كل المعاهدات الدولية قانونيا، بضاعتهم سترد إليهم بمعاييرهم نفسها، على أمل أن تنحاز النتائج إلى الحقيقة الناصعة.
ودعونا نتفاءل هنا، لأن أهمية المحاكمة معنويا ستؤسس لموقف استباقي يحدث للمرة الأولى مع الكيان الصهيوني. أهل اللجاج والمخادعة، والعصيان والتعدي. الكيان الذي يتصرف متجاوزا الأعراف الإنسانية.
الكيان الذي يستغل أوروبا ويبتز الشعوب الغربية بسبب عقدة المحرقة النازية، وها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يوجه انتقادا شديدا إلى بريتوريا، مؤكدا أن بلاده «هي التي تحارب الإبادة الجماعية»؟!
لا بد للعالم بأسره أن يعي بالحقائق الدامغة، وأمام ساحات القضاء الدولي، جرائم الكيان الصهيوني، ليس فقط للشجب والاستنكار والتعاطف بل للإدانة، وأن على المجتمع الدولي الاعتراف بجرائمه دوليا، فلا يجوز لمن أساء الأدب أن يأمن العقوبة.
ورغم الضغوط التي ستواجه القانون الدولي من جميع أنحاء العالم، واضعة العدالة الدولية أمام اختبار كبير، سيكون ضمن النتائج المحتملة لهذه المحاكمة، صدور أمر بوقف الهجوم الجوي والبري على قطاع غزة المحاصر، ودعوة كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لعدم خرق القرار، هذا في حال اعتبرت حركة حماس ممثلة لمقاومة الشعب الفلسطيني، وليست ذراعا تنفذ إملاءات دول أخرى، وقد يتم تجريم ومعاقبة القيادات العسكرية الإسرائيلية عبر مذكرات توقيف لمجرمي الحرب، وتحويلهم إلى محكمة الجنايات الدولية، وسيكون هناك تغيير استراتيجي متوقع في المشهد السياسي بعد التعامل مع تبعات المحاكمة.
هناك 163 دولة تعترف بالكيان الصهيوني حاليا، من أصل 193 دولة عضو بمنظمة الأمم المتحدة، وهناك وجع لا يحكى لكنه يبكى في الحروب، السهم خرج من القوس. قوس تحمل شرف ريادته بريتوريا. فمتى سيدرك العالم بالفعل، وبشكل عقلاني، أن الكيان الصهيوني لا يمكن تجميل وجهه البشع بعد الآن!
سأكمل تأملاتي.. بين الذين يعتدون، وبين أوراق شمعون، وما سيكون في لاهاي.
والله غالب على أمره.
smileofswords@
إذ لعن الله الذين كفروا منهم «بما عصوا وكانوا يعتدون».
توافق مع الاستماع للآيات مجموعة أخرى من الأحداث. فقد كنت أقرأ رواية كتبها أسامة الشاذلي عنوانها «أوراق شمعون المصري». تأتي في 635 صفحة لتحكي عن تيه بني إسرائيل في صحراء «سين»، ولحظة خروج اليهود من مصر مع سيدنا موسى، عبر سرد تاريخي وديني مشوق، يفصّل في أسطورة الأرض المقدسة، وفكرة الإله والدين والشريعة في الديانة اليهودية، خلال قصة بطل الرواية الذي ولد من أب عبراني وأم مصرية.
وحتى تزداد غصّة الجرعة اليهودية هذا الأسبوع، تابعتُ المرافعة القانونية التي تجري في محكمة العدل الدولية في لاهاي منذ الخميس 11 يناير، حيث فتحت الدعوى القضائية المقدمة ضد إسرائيل من دولة جنوب أفريقيا، الباب على مصراعيه إزاء احتمال وقف مشروع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، ولفتت الأنظار إلى النية المبيتة لتدمير غزة برعاية أعلى مستوى في إسرائيل. وطالبت الدعوى بضرورة وقف الهجوم العسكري الذي بدأ منذ 7 أكتوبر، وأودى بحياة 23,210 فلسطينيين، 70% منهم نساء وأطفال، وناقشت القيود المفروضة على تمرير المساعدات الإنسانية.
يترافع في القضية من جنوب أفريقيا فريق قانوني مكون من 9 محامين بارزين ومتخصصين في القانون الدولي وحقوق الإنسان من العالم.
أما فريق القضاة فهم من 15 دولة مختلفة من الولايات المتحدة وروسيا والصين ولبنان والمغرب، بمشاركة قاضيين من جنوب أفريقيا وإسرائيل، لضمان النزاهة والشفافية على حد قولهم؟!
قد تستمر المحاكمة شهورا وربما سنوات. وقرارات المحكمة ستكون بالغالبية، ونهائية وغير قابلة للاستئناف. لكن دون آلية لتنفيذها. يعني أن رأي 8 قضاة يكفي لتمرير القرار.
تأتي المحاكمة بعد فشل المجتمع الدولي في وقف العدوان، إذ تم الدفع بالمعركة القانونية إلى الساحة الدولية، بالتنسيق مع المنظمات الحقوقية التي تعرف دهاليز وخبايا القوانين الدولية، ولديها خبرة في كيفية التعاطي مع مثل هذا الملف الحرج. كانت المرافعة الاستباقية قوية ومفصلة.
وجه فيها الاتهام لإسرائيل وقياداتها بارتكاب جرائم تتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، التي وقّعت عليها جنوب أفريقيا وإسرائيل ودول أخرى.
ويوثق ملف الدعوى لتفاصيل مهمة وأدلة دامغة بالمستندات والتصريحات والأفلام والصور، تثبت ارتكاب إسرائيل للجرائم، وتدين الدول الصديقة لإسرائيل التي دعمت استمرار 3 أشهر من القصف والإبادة والتهجير والتجويع.
لب المشكلة يكمن في ازدواجية تعامل الدول العظمى مع الدول الأضعف، وفزّاعة معاداة الساميّة التي تنصبها «مهترئة» في حقول من يجاهر بالعداء لإسرائيل. وعندما يتعلق الأمر بجرائم الاحتلال تتخلى هذه الدول عن المفاهيم والمثل الإنسانية، وتلوي عنق القوانين الدولية التي وقعت على معاهداتها بالفيتو.
وإذ تغمض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أعينها عن بشاعة جرائم إسرائيل، تأتي المحاكمة ترسيخا لتوجه جديد في التعامل مع ازدواجية الغرب عبر إثبات التجاوزات التي تخرق كل المعاهدات الدولية قانونيا، بضاعتهم سترد إليهم بمعاييرهم نفسها، على أمل أن تنحاز النتائج إلى الحقيقة الناصعة.
ودعونا نتفاءل هنا، لأن أهمية المحاكمة معنويا ستؤسس لموقف استباقي يحدث للمرة الأولى مع الكيان الصهيوني. أهل اللجاج والمخادعة، والعصيان والتعدي. الكيان الذي يتصرف متجاوزا الأعراف الإنسانية.
الكيان الذي يستغل أوروبا ويبتز الشعوب الغربية بسبب عقدة المحرقة النازية، وها هو رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يوجه انتقادا شديدا إلى بريتوريا، مؤكدا أن بلاده «هي التي تحارب الإبادة الجماعية»؟!
لا بد للعالم بأسره أن يعي بالحقائق الدامغة، وأمام ساحات القضاء الدولي، جرائم الكيان الصهيوني، ليس فقط للشجب والاستنكار والتعاطف بل للإدانة، وأن على المجتمع الدولي الاعتراف بجرائمه دوليا، فلا يجوز لمن أساء الأدب أن يأمن العقوبة.
ورغم الضغوط التي ستواجه القانون الدولي من جميع أنحاء العالم، واضعة العدالة الدولية أمام اختبار كبير، سيكون ضمن النتائج المحتملة لهذه المحاكمة، صدور أمر بوقف الهجوم الجوي والبري على قطاع غزة المحاصر، ودعوة كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لعدم خرق القرار، هذا في حال اعتبرت حركة حماس ممثلة لمقاومة الشعب الفلسطيني، وليست ذراعا تنفذ إملاءات دول أخرى، وقد يتم تجريم ومعاقبة القيادات العسكرية الإسرائيلية عبر مذكرات توقيف لمجرمي الحرب، وتحويلهم إلى محكمة الجنايات الدولية، وسيكون هناك تغيير استراتيجي متوقع في المشهد السياسي بعد التعامل مع تبعات المحاكمة.
هناك 163 دولة تعترف بالكيان الصهيوني حاليا، من أصل 193 دولة عضو بمنظمة الأمم المتحدة، وهناك وجع لا يحكى لكنه يبكى في الحروب، السهم خرج من القوس. قوس تحمل شرف ريادته بريتوريا. فمتى سيدرك العالم بالفعل، وبشكل عقلاني، أن الكيان الصهيوني لا يمكن تجميل وجهه البشع بعد الآن!
سأكمل تأملاتي.. بين الذين يعتدون، وبين أوراق شمعون، وما سيكون في لاهاي.
والله غالب على أمره.
smileofswords@