غولك الخاص
الثلاثاء - 02 يناير 2024
Tue - 02 Jan 2024
هل لديك غول خاص بك يظهر لك عندما تنكسر أو تستسلم؛ فيهزأ بهزيمتك ويخبرك كم أنت ضعيف، ولست جيدا بالشكل المطلوب؟ من منا ليس لديه «أمه الغولة».. الخاصة به التي تصرخ فيه لترعبه، كانوا في الصغر يهددوننا بها لنمتثل ونطيع ونتهذب أكثر.. حاشا أبي وأمي من ذلك.. كان كبار العائلة هم الفاعلون.. يحدثوننا عن غولة تغير شكلها، وتخطف الأطفال غير المطيعين وتأكلهم، فكنا نظن أن كل امرأة عجوز هي في الأصل غولة متخفية.. لا أدري لم سموها «أمنا».. ولم تحضر بالذات لأخذ غير المطيعين منا؟
الغول أسطورة قديمة، كانت القبائل العربية تحذر أبناءها منه وتروي الحكايات عن خداعه ووحشيته، وحتى في الثقافات الغربية والفولكلور العالمي هناك غول وغيلان.. يسمونه (الأوجر) بالفرنسية.. كائن أسطوري ضخم الجسد عرضا وارتفاعا، له رأس أضخم وبشرته ملونة غالبا، لديه قوة بدنية تغنيه عن أي قوى خيال، يموت بطعنة واحدة فقط.. إن طعن أكثر يحيا من جديد، لقد تطورت أسطورة الغول لتصبح الزومبي في عصرنا الحالي، حتى في الأنمي ومسلسلات المانجا اليابانية، يرسم الغيلان بشكل أشبه بالبشر مع الحفاظ على طبائعهم الوحشية، فيهزمهم الأبطال وتشهد على خيباتهم الملاحم، ومع توارث الحكايات وتطورها تحول الغول إلى فوبيا الخوف من شيء ما، فوبيا القلق من المستقبل وتبعات ما قد يحدث.
يقول صفي الدين الحليّ:
لمَا رأيتُ بني الزّمان وما بهم
خِلّ وفيّ للشدائد أصطفي
فعلمتُ أن المستحيل ثلاثة
الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوفي
عندي ثقة أن الخل الوفي موجود.. وإلا لما كان الصدّيق - رضي الله - عنه صاحبا للمصطفى - صلى الله عليه وسلم-، فالخلّة خاصة والمحبة عامة.
الشاهد أن المشكك فيه هو وجود النوعين الآخرين: الغول المخادع، والعنقاء التي تنهض شامخة من الرماد.
ما أريد مناقشته، وإن كان في المقال «غيلان»، هو مفهومنا الخاص للفشل، للكسر والخيبة والانحناء والتخلي، البؤس المتوقع عند عدم تحقيق الكمال فيما قد نفعل؛ فنستسلم مدبرين عند أول سقطة.
عندما نحمل الخوف المستدام من أن الاختيارات والقرارات التي اتخذناها أو سنتخذها ليست صائبة ولم تكن الأفضل.. يا ترى هل هناك قاعدة تحدد أفضل الاختيارات في حياتنا؟ خاصة عندما لا يكون هناك حل منفرد أوحد.. ولا اختيار خاطئ بالكامل.. المشكلة هي في كيفية التعامل مع التردد.. ومع تبعات ما فضلناه من اختيار؟ اختيار نوع الدراسة، العمل، الزواج، الإنجاب، الصداقة، البقاء أو التخلي.. كل القرارات الجوهرية التي لا يمكن أن نتركها لرياح الحظ والصدفة.
ما يدهشني بحق، أني عندما أجتمع مع أناس أعرف عن نجاحاتهم وإنجازاتهم.. أقف احتراما أمام قدرتهم على الاستمرار رغم المعاناة والخيبات العميقة التي واجهتهم، تذهلني التناقضات في حياتهم، والتعثرات التي صنعوا منها توليفة قوية دافعة، تخرجهم من دائرة الإحباط والاستسلام إلى الفوز والنجاح على الصعيد الشخصي والمجتمعي.
الفشل بالنسبة لهم «كالمنحنى التعليمي المقدس» الذي يستفيدون منه بجدارة حيث الضربات تضيء الطرقات.
هذه العينة من الناس تؤمن بشيئين هما: النمو والرضا، يدركون بأن ما أصاب لم يكن ليخطئ.. وما أخطأ لم يكن ليصيب، وأن أي شيء في هذه الحياة سيفعل أو يُبتكر أو يُبنى.. زائل لا محالة على الأمد الطويل، فلما القلق؟
ودعونا نعترف أن هناك جانبا إيجابيا للفشل لا يمكننا إنكاره، الخيبة تكشف عن مواطن الضعف، وتعلمنا مهارات جديدة نصلح بها أخطاءنا.
الفاشل كثيرا يصبح خبيرا فيما يفعل، ويتعامل مع الظروف الصعبة بمهارة؛ لأنه أصبح أكثر قوة.
هناك جرس يقرع مع أي فشل، يدعونا إلى الحرص والكياسة وموازنة السلبيات والإيجابيات في كل قرار يتخذ، خلاصة القول إن الخوف من الفشل هو الغول القبيح للاختيارات والقرارات البشرية.. هو «أمنا الغولة».. المشكوك في تواجدها أسطوريا.
وبالتالي حتى لا نصاب بخيبة الأمل والشعور بالذنب، علينا بداية أن نتخلى عن الأفكار غير المنطقية والمعتقدات الخاطئة التي تؤثر على صحة قراراتنا، أول أسباب الفشل هو اليأس مع أول خيبة، الفشل الحقيقي يكمن في الاستسلام والبدء في تبرير الفشل عبر أعذار دون البحث عن الأسباب الحقيقية وتحمل المسؤولية.
ولو غيرنا من استراتيجيات التعاطي مع اختياراتنا دون أن نسمح للمشتتات بسلب التركيز قد يتحقق ما نريد.
من الضروري أيضا أن نبتعد عن الأشخاص المحبطين ونتمسك بالقدوة الملهمين، وألا نلقي اللوم على سوء الحظ.. وألا نفكر بالأسوأ حتى لا نجده أمامنا.
التأجيل وتضخيم الأمور يعطل التركيز على الأهداف؛ لذا فوجود خطة عمل واضحة ومحددة سيعزز من احتمالات تخطي الفشل.
في التراث الإسلامي يصرف «الغيلان» بتلاوة القرآن وتحديدا آية الكرسي، وبالأذان والتكبير.. ولأن مخاوفنا كثيرة تصبح الغيلان أكثر.. مخاوف نشترك بها مع كافة الناس، ومخاوف خاصة بنا، أنا شخصيا أخاف الغرق في البحر، وأخاف كلما سافرت أن أعود في تابوت؛ لكني أواجه هذا القلق بالمزيد من السباحة والكثير من السفر.. أبغض القلق ذاته.. فأهرب منه بالكتابة.
القبول والمواجهة هي جزء من الدفاع عن الاختيارات والاستمتاع برحلة التجربة والمحاولة في هذه الحياة، الكبوة والسقوط والنهوض تستحق منا الجهد والمثابرة؛ فاصرف عنك «غولك» يا رعاك الله.. لا تستسلم.. مستقبلك بعد مشيئة الله ينتمي لما تؤمن بتحقيقه.
فبسم الله رب البدايات قمّ وابدأ.
smileofswords@
الغول أسطورة قديمة، كانت القبائل العربية تحذر أبناءها منه وتروي الحكايات عن خداعه ووحشيته، وحتى في الثقافات الغربية والفولكلور العالمي هناك غول وغيلان.. يسمونه (الأوجر) بالفرنسية.. كائن أسطوري ضخم الجسد عرضا وارتفاعا، له رأس أضخم وبشرته ملونة غالبا، لديه قوة بدنية تغنيه عن أي قوى خيال، يموت بطعنة واحدة فقط.. إن طعن أكثر يحيا من جديد، لقد تطورت أسطورة الغول لتصبح الزومبي في عصرنا الحالي، حتى في الأنمي ومسلسلات المانجا اليابانية، يرسم الغيلان بشكل أشبه بالبشر مع الحفاظ على طبائعهم الوحشية، فيهزمهم الأبطال وتشهد على خيباتهم الملاحم، ومع توارث الحكايات وتطورها تحول الغول إلى فوبيا الخوف من شيء ما، فوبيا القلق من المستقبل وتبعات ما قد يحدث.
يقول صفي الدين الحليّ:
لمَا رأيتُ بني الزّمان وما بهم
خِلّ وفيّ للشدائد أصطفي
فعلمتُ أن المستحيل ثلاثة
الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوفي
عندي ثقة أن الخل الوفي موجود.. وإلا لما كان الصدّيق - رضي الله - عنه صاحبا للمصطفى - صلى الله عليه وسلم-، فالخلّة خاصة والمحبة عامة.
الشاهد أن المشكك فيه هو وجود النوعين الآخرين: الغول المخادع، والعنقاء التي تنهض شامخة من الرماد.
ما أريد مناقشته، وإن كان في المقال «غيلان»، هو مفهومنا الخاص للفشل، للكسر والخيبة والانحناء والتخلي، البؤس المتوقع عند عدم تحقيق الكمال فيما قد نفعل؛ فنستسلم مدبرين عند أول سقطة.
عندما نحمل الخوف المستدام من أن الاختيارات والقرارات التي اتخذناها أو سنتخذها ليست صائبة ولم تكن الأفضل.. يا ترى هل هناك قاعدة تحدد أفضل الاختيارات في حياتنا؟ خاصة عندما لا يكون هناك حل منفرد أوحد.. ولا اختيار خاطئ بالكامل.. المشكلة هي في كيفية التعامل مع التردد.. ومع تبعات ما فضلناه من اختيار؟ اختيار نوع الدراسة، العمل، الزواج، الإنجاب، الصداقة، البقاء أو التخلي.. كل القرارات الجوهرية التي لا يمكن أن نتركها لرياح الحظ والصدفة.
ما يدهشني بحق، أني عندما أجتمع مع أناس أعرف عن نجاحاتهم وإنجازاتهم.. أقف احتراما أمام قدرتهم على الاستمرار رغم المعاناة والخيبات العميقة التي واجهتهم، تذهلني التناقضات في حياتهم، والتعثرات التي صنعوا منها توليفة قوية دافعة، تخرجهم من دائرة الإحباط والاستسلام إلى الفوز والنجاح على الصعيد الشخصي والمجتمعي.
الفشل بالنسبة لهم «كالمنحنى التعليمي المقدس» الذي يستفيدون منه بجدارة حيث الضربات تضيء الطرقات.
هذه العينة من الناس تؤمن بشيئين هما: النمو والرضا، يدركون بأن ما أصاب لم يكن ليخطئ.. وما أخطأ لم يكن ليصيب، وأن أي شيء في هذه الحياة سيفعل أو يُبتكر أو يُبنى.. زائل لا محالة على الأمد الطويل، فلما القلق؟
ودعونا نعترف أن هناك جانبا إيجابيا للفشل لا يمكننا إنكاره، الخيبة تكشف عن مواطن الضعف، وتعلمنا مهارات جديدة نصلح بها أخطاءنا.
الفاشل كثيرا يصبح خبيرا فيما يفعل، ويتعامل مع الظروف الصعبة بمهارة؛ لأنه أصبح أكثر قوة.
هناك جرس يقرع مع أي فشل، يدعونا إلى الحرص والكياسة وموازنة السلبيات والإيجابيات في كل قرار يتخذ، خلاصة القول إن الخوف من الفشل هو الغول القبيح للاختيارات والقرارات البشرية.. هو «أمنا الغولة».. المشكوك في تواجدها أسطوريا.
وبالتالي حتى لا نصاب بخيبة الأمل والشعور بالذنب، علينا بداية أن نتخلى عن الأفكار غير المنطقية والمعتقدات الخاطئة التي تؤثر على صحة قراراتنا، أول أسباب الفشل هو اليأس مع أول خيبة، الفشل الحقيقي يكمن في الاستسلام والبدء في تبرير الفشل عبر أعذار دون البحث عن الأسباب الحقيقية وتحمل المسؤولية.
ولو غيرنا من استراتيجيات التعاطي مع اختياراتنا دون أن نسمح للمشتتات بسلب التركيز قد يتحقق ما نريد.
من الضروري أيضا أن نبتعد عن الأشخاص المحبطين ونتمسك بالقدوة الملهمين، وألا نلقي اللوم على سوء الحظ.. وألا نفكر بالأسوأ حتى لا نجده أمامنا.
التأجيل وتضخيم الأمور يعطل التركيز على الأهداف؛ لذا فوجود خطة عمل واضحة ومحددة سيعزز من احتمالات تخطي الفشل.
في التراث الإسلامي يصرف «الغيلان» بتلاوة القرآن وتحديدا آية الكرسي، وبالأذان والتكبير.. ولأن مخاوفنا كثيرة تصبح الغيلان أكثر.. مخاوف نشترك بها مع كافة الناس، ومخاوف خاصة بنا، أنا شخصيا أخاف الغرق في البحر، وأخاف كلما سافرت أن أعود في تابوت؛ لكني أواجه هذا القلق بالمزيد من السباحة والكثير من السفر.. أبغض القلق ذاته.. فأهرب منه بالكتابة.
القبول والمواجهة هي جزء من الدفاع عن الاختيارات والاستمتاع برحلة التجربة والمحاولة في هذه الحياة، الكبوة والسقوط والنهوض تستحق منا الجهد والمثابرة؛ فاصرف عنك «غولك» يا رعاك الله.. لا تستسلم.. مستقبلك بعد مشيئة الله ينتمي لما تؤمن بتحقيقه.
فبسم الله رب البدايات قمّ وابدأ.
smileofswords@