هتون أجواد الفاسي

انفصام.. هروب وحروب

الاحد - 31 ديسمبر 2023

Sun - 31 Dec 2023

رحلة «دراجات الشروق» إلى جزر فرسان لركوب الدراجات ثم الاستجمام يومين وليلة في جزيرة خاصة بنا نسبح ونلهو، ثم جازان ووادي لجب وما حوله من طبيعة خلابة، ولقاء فاطم بعد سنوات انقطاع طويلة، ثم لقاء مساواة مع نساء فلسطينيات وشهادات من غزة ومن الضفة ومن القدس في خضم الحرب الثانية على غزة.. أو استئناف الحرب والقتل والانتهاكات الصارخة لكل القيم والقوانين والحقوق مرة ثانية بعد هدنة الستة أيام التي استأمن الناس فيها ليعود القتل أشد تنكيلا بينما نحن نستمتع بين جزيرة وأخرى وسباحة ودراجة وهايكنغ.. تساءلت.. كيف نستمر في حياتنا الطبيعية.. نأكل وننام وننشغل بمسؤولياتنا اليومية الصغيرة والكبيرة، التافهة والمهمة رغم القتل والنهب والجرائم التي تجري في نفس التوقيت في غزة؟ كيف نعيش حالة الانفصام هذه دون شعور بالانفصام؟

آخذ وقفة خلال اليوم في الصباح أو المساء لمراجعة كل ما يمر على الانستقرام من فيديوهات ومسيرات ولقاءات وتصريحات، وفي السيارة الاستماع إلى الأخبار، ثم على التلفاز مساء ثم على الجوال بكل قنوات تطبيقات تويتر، فيس بوك، انستقرام، لنكد إن، وكل ما أتواصل به، ثم أعود إلى إيميلاتي والتذكير بالمهل النهائية لتسليم هذا البحث وذاك التقرير، ومن ثم الواتس أب بكل تفريعاته ومجموعاته ورسائله وما بينها من طلبات شركات التوصيل بصورهم المختلفة بإرسال اللوكيشن.

ونعود ونستمع إلى الأخبار التي تعيدنا إلى بوصلتنا الطبيعية للتفاعل مع الواقع.. ثم لا أدري أي زمان هو الواقع.. فالتواصل الآني جعلنا في واقع متواصل حتى ونحن على جزيرة نائية في البحر الأحمر.. أراقب الأرض التي أخذت تتحرك وتتمايل فجأة من تحتي في كل اتجاه أو في الواقع من تحت المحار الذي كان راسيا، أو هكذا ظننت.. فماد.

مع فاطم أستذكر أيام «مبادرة بلدي» والتحضير للانتخابات البلدية التي كنا مؤمنات بأنها المخرج إلى مشاركة المرأة السعودية في المجتمع وفي بناء الوطن وفي خلق واقع جديد تشارك من خلاله المرأة بكل الأطياف ومن كل المناطق في إدارة شؤون بيئتها المحلية.. كان حراكا ونشاطا لا يتوقف في كل محافظة في المملكة... وتذكرنا وتساءلنا.. وحمدنا الله على التحولات التي وصلت في حياتنا.

تتحدث دينا عن شهادة نزوحها من بيتها في حي الرمال إلى مستشفى الشفاء إلى بيوت أخوتها ثم بيوت لا تعرفها مع لاجئين ونازحين يتكدسون في منازل ومساحات ضيقة يفقد فيها الإنسان خصوصيته فضلا عن النساء.. تهجير في شتات في عدم جدوى في فقدان لكل شيء في خسارة كل شيء.. في عدم تصديق.. في الكفر بالعالم الأول المتقدم والمجتمع الإنساني المتفرج والتشويه الذي أصاب قيم حقوق الإنسان.. لا تعرف دينا ماذا تقول بعد.. بعد أن لم تعد اللغة تفي حق وصف ما آل إليه الحال في غزة للأطفال.. للنساء.. للرجال.

كفاح.. تتحدث عما فعلته الحرب في النساء ذوي الاحتياجات الخاصة من تدمير كامل لكل البنية المساندة لتزيد من مأساتهن.. وما نتج عن الحرب من تحويل لعدد كبير من الناجين من القتل إلى أفراد ذوي احتياجات خاصة مقصودة ومستهدفة.

من الواضح أن استهداف الكيان الصهيوني المتغول هو باتجاه الأطفال بالدرجة الأولى.. القصد منه القضاء على الجيل القادم الذي يمثل تهديدا للمشروع الصهيوني هو والنساء الولودات.. لطالما كانت محاولات الكيان الصهيوني تعقيم النساء بأشكال مختلفة دون جدوى.. سواء بنشر غازات سامة أو اضطرار النساء لإزالة أرحامهن كما يجري الآن في حالة الحرب حيث الإجهاضات متكاثرة والمضاعفات تتحول إلى عمليات استئصال لا أدري كيف، ولكنها القصص المحزنة التي تصلنا.

ثم بعد التخلص من الأطفال والنساء، تعمل على تحويل الناجين إلى معوقين بكل الطرق.. وأبسطها منع الدواء والعلاج واستهداف المستشفيات كبنية تحتية ومنشآت وكوادر طبية وإسعافية لمنع الوصول إلى العلاج بكافة السبل.

وبالتالي إنهاء قلب الشعب الفلسطيني.. أو هكذا يتصورون.

وتتحدث أهيلة عن نساء الضفة وقصة الحواجز التي تفصل كل قرية وكل مدينة فلسطينية في الضفة عن الأخرى، والتي تزداد وقت الأزمات فوصلت حاليا إلى حوالي 535 حاجزا لا بد أن يمر بها الفلسطيني عندما ينتقل من مدينة إلى أخرى.. والتشييك على البطاقات التي تختلف ألوانها وحدودها وتفاصيلها ما بين زرقاء وخضراء وغير ذلك لتميز المقدسي عن الضفة عن فلسطينيي الداخل الذين لم يعد يطلق عليهم فلسطينيون وإنما عرب. عرب إسرائيل.

فيرد عليهم محمود درويش: «سجل.. أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف.. وأطفالي ثمانية.. وتاسعهم سيأتي بعد صيف».

الحرب على الهوية الفلسطينية متمتد ومستفحل في النفسية الإسرائيلية المريضة تسبب له وسواسا قهريا يحاول استئصالها دون جدوى، وعبثا.. جرب كل عقار.

نساء الوطن العربي مسقط في أيديهن لا يملكن من أمرهن سوى المقاطعة، التبرع، إعادة إرسال القصص المأساوية والمقاومة التي تنتشر في السوشيال ميديا، أو مشاركة المظاهرات المؤيدة لفلسطين والتي تنتشر في العالم، أو الدعاء وهو أضعف الإيمان.

ولا تزال الحياة مستمرة.. والحرب مستمرة.. والإبادة مستمرة.. كلهم سيرحلون إلى العام الجديد. لطفك اللهم.