العطاء بين إنفاق سكوت ورأسمالية غيتس
الخميس - 28 ديسمبر 2023
Thu - 28 Dec 2023
للعطاء الخيري وغير الربحي في الغرب وأمريكا بصورة خاصة (دوافع وأهداف) متنوعة، فمنها ما هو ديني تبشيري، ومنها ما هو علماني رأسمالي، ومنها ما هو إغاثي إنساني، وأشهرها وأكبرها وأقواها تأثيرا هو القطاع غير الربحي الرأسمالي العلماني، كما هي مؤسسة بيل غيتس غير الربحية وغيره كثير. ومنذ عام 2008م أطلق بيل غيتس رأسماليته الخيرية الخلاقة (Creative Capitalism) كما يسميها هو، وأقنع مجموعات كبيرة من أرباب الثراء والثروة للانضمام إلى هذه الرأسمالية العملاقة (الرأسمالية الخيرية) بما يعرف بـ(تعهد العطاء The Giving Pledge) عام 2010م، وهذه الرأسمالية الخيرية، وتعهد العطاء، والأهداف والأجندات موضوعات مهمة أخرى يقتضي تحريرها بكتابة كتب وأبحاث وبمقالات متعددة.
- عطاء سكوت:
تختلف (مدارس العطاء) في الغرب في الوسائل والبرامج، ومن نماذج هذا الاختلاف ما يفعله الملياردير بيل غيتس بالثروة، وبين عطاء المليارديرة الأمريكية ماكنزي سكوت، وسكوت هي طليقة الملياردير جيف بيزوس مؤسس أمازون، والذي أحدث عطاؤها ضجة إعلامية كبرى في الغرب، وذلك بتبرعها المباشر والكبير بما يزيد عن (14 مليار دولار) حينما أعطت مباشرة إلى ما لا يقل عن 1621 جمعية خيرية عطاء مباشرا، وذلك من عام 2020 إلى 2023م حسب مجلة فورتشن الأمريكية، وهو العطاء المختلف جذريا عن أجواء ومدرسة ما يسمى العصر الذهبي للرأسمالية الخيرية الأمريكية التي يقودها بيل غيتس.
وحول عطاء سكوت كتبت المجلة سابقة الذكر «يتبرع بعض المانحين الأثرياء دون الكشف عن هويتهم؛ لأنهم يريدون الخصوصية ولا يريدون الإعلام، ويريدون مثل سكوت، أن يركز الناس على عمل المنظمة غير الربحية التي يدعمونها. والبعض الآخر على استعداد للتخلي عن بعض الخصوصية؛ لأنهم يعرفون أن ربط أسمائهم بتبرع كبير يشجع أقرانهم على دعم هذه المؤسسة الخيرية. وتعتبر حالة سكوت فريدة من نوعها في أجواء الرأسمالية؛ بسبب حجم ثروتها وعطائها المطلق غير المقيد، وتقدر ثروتها حاليا بحوالي 37 مليار دولار، وثروتها نشأت من أسهمها في شركة أمازون، وهي واحدة من أكبر الشركات شهرة في العالم، كما تقول كاثرينا روسكويتا» [المرجع السابق].
وحول هذا الأسلوب من العطاء السخي المباشر من سكوت، كتبت إحدى المجلات البحثية الأمريكية ورقة علمية بعنوان: (الرأسمالية الخيرية ومكافحة الإتجار بالبشر) للكاتبين جاني تشوانغ، وإيلينا شيه، وما يعني في هذا الموضوع ما ورد في المقال حول المقارنات بين العطاء المباشر السخي من جهة كما فعلت سكوت، وعطاء الرأسمالية الخيرية الفاقد للجود ومفاهيم العطاء السخي من جهة أخرى، وقد أشاد الكاتبان عن الأنموذج المثالي للعطاء المباشر كما فعلت سكوت الموصوفة بفاعلة الخير في عام 2021م، وهي الروائية الحائزة على بعض الجوائز، والمتبرعة بحوالي 6 مليارات دولار بصورة مباشرة، لنحو 500 منظمة في غضون خمسة أشهر. لقد تصدرت عناوين الأخبار لعطائها السريع، والسخاء غير المشروط، ولم يقتصر الأمر على أنها كانت تتبرع بثروتها بشكل أسرع من أي شخص آخر مرتبط بـ (تعهد العطاء) من الرأسماليين، وهو التزام تعهد فيه المليارديرات بالتبرع بأغلبية ثرواتهم للأعمال الخيرية لكن على الطريقة الرأسمالية، ولكن سكوت قلبت الممارسات الخيرية الحديثة رأسا على عقب بالطريقة التي قدمت بها التبرعات! وبدلا من إنشاء مؤسسة غير ربحية برأسمالية خيرية لإدارة إعادة توزيع ثروتها كما هو حال غيتس، قدمت سكوت ما لديها للجهات الممنوحة بثقة كاملة، وبدون شروط، بناء على توصيات مجموعة موثوقة من المستشارين. وفي حقيقة الأمر عن هذا العطاء، فإن سكوت أعطت، ثم خرجت من الطريق!
والباحثان يقولان إن هذا النوع من نهج العطاء بعدم التدخل الذي قامت به سكوت، ليس شائعا بالنسبة لكبار المانحين، إنه شكل أكثر تقليدية للعمل الخيري المباشر في النفع، ويهدف إلى رد الجميل للمجتمع للمساعدة في التكفير عن خطايا الأعمال التجارية! وفي المقابل فإن الشكل السائد الحديث للعمل الخيري والمعروف باسم العمل الخيري المغامر أو الرأسمالية الخيرية، لا يقدم التعويض عن عيوب النظام الاقتصادي الرأسمالي! بل إنه يتصف بالاستبداد، وعدم المساءلة، وتلاشي الديمقراطية حسب الباحثين [المرجع السابق]. وهذه المنهجية هي التي يجب الاستفادة منها حينما لم يستهو سكوت بريق الرأسمالية الخيرية واستثماراتها ودون رغبة منها في صعود سلم المشاهير!
- رأسمالية غيتس:
يأتي مقابل عطاء سكوت مدرسة بيل غيتس في مفهوم العطاء، فهو التزام أيديولوجي عميق يؤمن بالحلول القائمة على السوق الاقتصادي لمشكلات العالم، بما يسمى (الرأسمالية الخيرية) التي يصفها غيتس نفسه بالخلاقة، وهي المتوافقة كثيرا مع التفكير التجاري بأساليب السوق وشركاته الاقتصادية، كتوجه حديث للقطاع غير الربحي بتعظيم رأسماله وأرباحه! والذي فيه معالجة جزئية أو متواضعة لبعض المشكلات الاجتماعية، وعن هذا كتب الباحث مايكل إدواردز كتابه (مجرد إمبراطور آخر: الحقائق والأساطير حول الرأسمالية الخيرية) وذلك بقوله "هناك فجوة كبيرة بين الضجيج المحيط بهذا العمل الخيري الجديد من المناصرين له وبين تأثيره المحتمل، لقد أدرك بعض المحسنين الجدد هذا، وأظهروا تواضعا واستعدادا للتعرف على تعقيدات التغيير الاجتماعي، لكن الكثير لا يزالون مفتونين بالضجيج المناصر!"
والمهم في موضوع هذه المقارنة أن بيل غيتس -بمنهجيته الرأسمالية حسب آخر إحصائية عن ثروته التي تزداد ولا تنقص، لا سيما بعد إطلاق أيديولوجيته تجاه القطاع غير الربحي- قد أصبحت مؤسسته غير الربحية في عام 2020م ثاني أكبر مؤسسة خيرية في العالم، وتقدر ثروة بيل غيتس في عام 2021م بنحو 137 مليار دولار، وثروة ميليندا بنحو 6 مليارات دولار بعد انفصالهما بالطلاق (RT الروسية)، وتذبذب أسعار الأسهم العالمية بصفة مستمرة يؤدي إلى الانخفاض لثروة غيتس حينا، والارتفاع حينا آخر.
- من جنايات الرأسمالية الخيرية:
في ظل هذه الرأسمالية الخيرية ربح غيتس اقتصاديا من الإغلاق العالمي لكورونا كوفيد- 19 مبلغا ماليا كبيرا وصل (20) مليار دولار، وهو ما لفت أنظار بعض الباحثين حول صناعة المرض والاستغلال في الدواء! وقد ورد في تقرير حملة (أمريكيون من أجل العدالة الضريبية) أن الثروة الجماعية لـ 651 مليارديرا في أمريكا قد ارتفعت بمقدار (1.1) تريليون دولار خلال فترة كورونا، ويقابل هذا الربح الكبير إفلاس 100 ألف شركة أمريكية في الفترة نفسها! حسب الغارديان البريطانية، وهو ما يعكس جنايات الرأسمالية الخيرية وعدم عدالتها كما هي رأسمالية السوق الاقتصادية دون اختلاف يذكر بينهما!.
ويستثمر بيل غيتس بأموال مؤسسته غير الربحية من خلال توجهه الجديد بالغذاء والدواء؛ حيث مشاريع الزراعة التكنولوجية بأمريكا وأفريقيا، وأبحاث وشركات الدواء العالمية كأبرز نشاط له، وهو النشاط الذي أصبح موضع جدل كبير ونقاش إعلامي وسياسي مثير حول هذه الرأسمالية الخيرية ومنتجاتها، وأنها لا تخرج عن كونها نيوليبرالية (حديثة) لاستثمار المال بوظائف وأجندات تتوافق مع المخطط الكبير لما يسمى (العالم الجديد) أو العالم الحديث حسب الباحثين في هذه الرأسمالية.
- حوار مفتوح:
إن ما يهم في هذا المقال ليس نقد الرأسمالية الخيرية الصاعدة بأمريكا بصورة خاصة، بقدر ما هي فتح بعض الآفاق للنقاش والحوار، والاستفادة من المقارنات بين مدارس العطاء الغربي، ومدى التوافق والتعارض في تحقيق معظم مصالح العطاء الإنساني وثمراته.
ومن الدراسات المأمولة عمل المقارنات بين مدرستي سكوت وغيتس مع أوجه العطاء وأبوابه وأهدافه ومقاصده في تشريعات الإسلام وبيئات العالم العربي الإسلامي، لمعرفة مدى التوافق أو التعارض مع العطاء المباشر للأفراد والجمعيات، وإجراء المقارنات مع العطاء الوقفي والاستثماري خدمة لرواد العطاء بأموالهم، وللمانحين بمؤسساتهم، وأي المدرستين عند تقييم المرحلة أنسب وأسلم في المجتمعات المسلمة؟ وهل تعظيم رأس المال الوقفي وأرباحه، لدرجة تضخم رأس المال بعطاءات محدودة وخجولة أسلم؟ لا سيما مع تحديات الحجم الكبير للأوقاف، والمخاطر المستقبلية الإدارية والاستثمارية والتقلبات الاقتصادية، أم أن عدم وضع (البيض في سلة واحدة) بوقف موحد وبمؤسسة واحدة، وكما هو عملت سكوت في تفتيت أموالها الخيرية هو الأسلم والأجدى؟ حينما وزعت ثروتها على مئات الجمعيات والمؤسسات الناجحة كل عام. ثم هل الأموال والوقف المفتت للمحسنين على عدد من الجمعيات وأوقافها يحقق هدف الإحسان بأن تكون الثروات سابقة أمامهم ولاحقة؟ ليرى أرباب العطاء ثمراتها بحياتهم في سلال متعددة، ومتنوعة من النجاح والإخفاق كذلك!
وتبقى هذه تساؤلات مفتوحة للأطراف المعنية، ولعل من الإجابات الحاضرة الإرشادية ما كتبه معالي الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- في إحدى أوراقه العلمية عن الوقف، حينما كتب عن إحدى صور التجديد والتحديث في الوقف ووسائله المعاصرة، وذلك بتوزيع الأوقاف والثروات على الجمعيات وأوقافها ذات التراخيص الرسمية؛ حيث الاطمئنان لولاياتها، وعدم الخوف من ضياع الوقف، بل ليكون الوقف الواحد أوقافا متعددة على جمعيات متنوعة كذلك، ولا حد لعمرها الزمني، وذلك بقوله «فالواقف عادة لا يطمئن إلى مستقبل الوقف، بالتخوف من أن يتولاه من لا يحسن إدارته، أو يخاف من ضياعه إذا لم يوجد ولي مصلح، فكان الوقف الذي تقوم عليه مؤسسة خيرية لا حد لعمرها، حلا مثاليا لهذه الإشكالية» (تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم).
ختاما، فإن ما فعلته المليارديرة الأمريكية سكوت، وما يفعله الملياردير الرأسمالي غيتس من خلال مؤسسته غير الربحية، وما قاله الشيخ الحصين حول أنموذج مثالي للوقفيات يستوجب النقاش والحوار وورش العمل، وربما البحوث والدراسات الفقهية والإدارية، وهو موضوع يستحق، وحفظ الله العطاء بوطن العطاء، وبارك الله في الجهود، ووفق للصواب.
- عطاء سكوت:
تختلف (مدارس العطاء) في الغرب في الوسائل والبرامج، ومن نماذج هذا الاختلاف ما يفعله الملياردير بيل غيتس بالثروة، وبين عطاء المليارديرة الأمريكية ماكنزي سكوت، وسكوت هي طليقة الملياردير جيف بيزوس مؤسس أمازون، والذي أحدث عطاؤها ضجة إعلامية كبرى في الغرب، وذلك بتبرعها المباشر والكبير بما يزيد عن (14 مليار دولار) حينما أعطت مباشرة إلى ما لا يقل عن 1621 جمعية خيرية عطاء مباشرا، وذلك من عام 2020 إلى 2023م حسب مجلة فورتشن الأمريكية، وهو العطاء المختلف جذريا عن أجواء ومدرسة ما يسمى العصر الذهبي للرأسمالية الخيرية الأمريكية التي يقودها بيل غيتس.
وحول عطاء سكوت كتبت المجلة سابقة الذكر «يتبرع بعض المانحين الأثرياء دون الكشف عن هويتهم؛ لأنهم يريدون الخصوصية ولا يريدون الإعلام، ويريدون مثل سكوت، أن يركز الناس على عمل المنظمة غير الربحية التي يدعمونها. والبعض الآخر على استعداد للتخلي عن بعض الخصوصية؛ لأنهم يعرفون أن ربط أسمائهم بتبرع كبير يشجع أقرانهم على دعم هذه المؤسسة الخيرية. وتعتبر حالة سكوت فريدة من نوعها في أجواء الرأسمالية؛ بسبب حجم ثروتها وعطائها المطلق غير المقيد، وتقدر ثروتها حاليا بحوالي 37 مليار دولار، وثروتها نشأت من أسهمها في شركة أمازون، وهي واحدة من أكبر الشركات شهرة في العالم، كما تقول كاثرينا روسكويتا» [المرجع السابق].
وحول هذا الأسلوب من العطاء السخي المباشر من سكوت، كتبت إحدى المجلات البحثية الأمريكية ورقة علمية بعنوان: (الرأسمالية الخيرية ومكافحة الإتجار بالبشر) للكاتبين جاني تشوانغ، وإيلينا شيه، وما يعني في هذا الموضوع ما ورد في المقال حول المقارنات بين العطاء المباشر السخي من جهة كما فعلت سكوت، وعطاء الرأسمالية الخيرية الفاقد للجود ومفاهيم العطاء السخي من جهة أخرى، وقد أشاد الكاتبان عن الأنموذج المثالي للعطاء المباشر كما فعلت سكوت الموصوفة بفاعلة الخير في عام 2021م، وهي الروائية الحائزة على بعض الجوائز، والمتبرعة بحوالي 6 مليارات دولار بصورة مباشرة، لنحو 500 منظمة في غضون خمسة أشهر. لقد تصدرت عناوين الأخبار لعطائها السريع، والسخاء غير المشروط، ولم يقتصر الأمر على أنها كانت تتبرع بثروتها بشكل أسرع من أي شخص آخر مرتبط بـ (تعهد العطاء) من الرأسماليين، وهو التزام تعهد فيه المليارديرات بالتبرع بأغلبية ثرواتهم للأعمال الخيرية لكن على الطريقة الرأسمالية، ولكن سكوت قلبت الممارسات الخيرية الحديثة رأسا على عقب بالطريقة التي قدمت بها التبرعات! وبدلا من إنشاء مؤسسة غير ربحية برأسمالية خيرية لإدارة إعادة توزيع ثروتها كما هو حال غيتس، قدمت سكوت ما لديها للجهات الممنوحة بثقة كاملة، وبدون شروط، بناء على توصيات مجموعة موثوقة من المستشارين. وفي حقيقة الأمر عن هذا العطاء، فإن سكوت أعطت، ثم خرجت من الطريق!
والباحثان يقولان إن هذا النوع من نهج العطاء بعدم التدخل الذي قامت به سكوت، ليس شائعا بالنسبة لكبار المانحين، إنه شكل أكثر تقليدية للعمل الخيري المباشر في النفع، ويهدف إلى رد الجميل للمجتمع للمساعدة في التكفير عن خطايا الأعمال التجارية! وفي المقابل فإن الشكل السائد الحديث للعمل الخيري والمعروف باسم العمل الخيري المغامر أو الرأسمالية الخيرية، لا يقدم التعويض عن عيوب النظام الاقتصادي الرأسمالي! بل إنه يتصف بالاستبداد، وعدم المساءلة، وتلاشي الديمقراطية حسب الباحثين [المرجع السابق]. وهذه المنهجية هي التي يجب الاستفادة منها حينما لم يستهو سكوت بريق الرأسمالية الخيرية واستثماراتها ودون رغبة منها في صعود سلم المشاهير!
- رأسمالية غيتس:
يأتي مقابل عطاء سكوت مدرسة بيل غيتس في مفهوم العطاء، فهو التزام أيديولوجي عميق يؤمن بالحلول القائمة على السوق الاقتصادي لمشكلات العالم، بما يسمى (الرأسمالية الخيرية) التي يصفها غيتس نفسه بالخلاقة، وهي المتوافقة كثيرا مع التفكير التجاري بأساليب السوق وشركاته الاقتصادية، كتوجه حديث للقطاع غير الربحي بتعظيم رأسماله وأرباحه! والذي فيه معالجة جزئية أو متواضعة لبعض المشكلات الاجتماعية، وعن هذا كتب الباحث مايكل إدواردز كتابه (مجرد إمبراطور آخر: الحقائق والأساطير حول الرأسمالية الخيرية) وذلك بقوله "هناك فجوة كبيرة بين الضجيج المحيط بهذا العمل الخيري الجديد من المناصرين له وبين تأثيره المحتمل، لقد أدرك بعض المحسنين الجدد هذا، وأظهروا تواضعا واستعدادا للتعرف على تعقيدات التغيير الاجتماعي، لكن الكثير لا يزالون مفتونين بالضجيج المناصر!"
والمهم في موضوع هذه المقارنة أن بيل غيتس -بمنهجيته الرأسمالية حسب آخر إحصائية عن ثروته التي تزداد ولا تنقص، لا سيما بعد إطلاق أيديولوجيته تجاه القطاع غير الربحي- قد أصبحت مؤسسته غير الربحية في عام 2020م ثاني أكبر مؤسسة خيرية في العالم، وتقدر ثروة بيل غيتس في عام 2021م بنحو 137 مليار دولار، وثروة ميليندا بنحو 6 مليارات دولار بعد انفصالهما بالطلاق (RT الروسية)، وتذبذب أسعار الأسهم العالمية بصفة مستمرة يؤدي إلى الانخفاض لثروة غيتس حينا، والارتفاع حينا آخر.
- من جنايات الرأسمالية الخيرية:
في ظل هذه الرأسمالية الخيرية ربح غيتس اقتصاديا من الإغلاق العالمي لكورونا كوفيد- 19 مبلغا ماليا كبيرا وصل (20) مليار دولار، وهو ما لفت أنظار بعض الباحثين حول صناعة المرض والاستغلال في الدواء! وقد ورد في تقرير حملة (أمريكيون من أجل العدالة الضريبية) أن الثروة الجماعية لـ 651 مليارديرا في أمريكا قد ارتفعت بمقدار (1.1) تريليون دولار خلال فترة كورونا، ويقابل هذا الربح الكبير إفلاس 100 ألف شركة أمريكية في الفترة نفسها! حسب الغارديان البريطانية، وهو ما يعكس جنايات الرأسمالية الخيرية وعدم عدالتها كما هي رأسمالية السوق الاقتصادية دون اختلاف يذكر بينهما!.
ويستثمر بيل غيتس بأموال مؤسسته غير الربحية من خلال توجهه الجديد بالغذاء والدواء؛ حيث مشاريع الزراعة التكنولوجية بأمريكا وأفريقيا، وأبحاث وشركات الدواء العالمية كأبرز نشاط له، وهو النشاط الذي أصبح موضع جدل كبير ونقاش إعلامي وسياسي مثير حول هذه الرأسمالية الخيرية ومنتجاتها، وأنها لا تخرج عن كونها نيوليبرالية (حديثة) لاستثمار المال بوظائف وأجندات تتوافق مع المخطط الكبير لما يسمى (العالم الجديد) أو العالم الحديث حسب الباحثين في هذه الرأسمالية.
- حوار مفتوح:
إن ما يهم في هذا المقال ليس نقد الرأسمالية الخيرية الصاعدة بأمريكا بصورة خاصة، بقدر ما هي فتح بعض الآفاق للنقاش والحوار، والاستفادة من المقارنات بين مدارس العطاء الغربي، ومدى التوافق والتعارض في تحقيق معظم مصالح العطاء الإنساني وثمراته.
ومن الدراسات المأمولة عمل المقارنات بين مدرستي سكوت وغيتس مع أوجه العطاء وأبوابه وأهدافه ومقاصده في تشريعات الإسلام وبيئات العالم العربي الإسلامي، لمعرفة مدى التوافق أو التعارض مع العطاء المباشر للأفراد والجمعيات، وإجراء المقارنات مع العطاء الوقفي والاستثماري خدمة لرواد العطاء بأموالهم، وللمانحين بمؤسساتهم، وأي المدرستين عند تقييم المرحلة أنسب وأسلم في المجتمعات المسلمة؟ وهل تعظيم رأس المال الوقفي وأرباحه، لدرجة تضخم رأس المال بعطاءات محدودة وخجولة أسلم؟ لا سيما مع تحديات الحجم الكبير للأوقاف، والمخاطر المستقبلية الإدارية والاستثمارية والتقلبات الاقتصادية، أم أن عدم وضع (البيض في سلة واحدة) بوقف موحد وبمؤسسة واحدة، وكما هو عملت سكوت في تفتيت أموالها الخيرية هو الأسلم والأجدى؟ حينما وزعت ثروتها على مئات الجمعيات والمؤسسات الناجحة كل عام. ثم هل الأموال والوقف المفتت للمحسنين على عدد من الجمعيات وأوقافها يحقق هدف الإحسان بأن تكون الثروات سابقة أمامهم ولاحقة؟ ليرى أرباب العطاء ثمراتها بحياتهم في سلال متعددة، ومتنوعة من النجاح والإخفاق كذلك!
وتبقى هذه تساؤلات مفتوحة للأطراف المعنية، ولعل من الإجابات الحاضرة الإرشادية ما كتبه معالي الشيخ صالح الحصين -رحمه الله- في إحدى أوراقه العلمية عن الوقف، حينما كتب عن إحدى صور التجديد والتحديث في الوقف ووسائله المعاصرة، وذلك بتوزيع الأوقاف والثروات على الجمعيات وأوقافها ذات التراخيص الرسمية؛ حيث الاطمئنان لولاياتها، وعدم الخوف من ضياع الوقف، بل ليكون الوقف الواحد أوقافا متعددة على جمعيات متنوعة كذلك، ولا حد لعمرها الزمني، وذلك بقوله «فالواقف عادة لا يطمئن إلى مستقبل الوقف، بالتخوف من أن يتولاه من لا يحسن إدارته، أو يخاف من ضياعه إذا لم يوجد ولي مصلح، فكان الوقف الذي تقوم عليه مؤسسة خيرية لا حد لعمرها، حلا مثاليا لهذه الإشكالية» (تطبيقات الوقف بين الأمس واليوم).
ختاما، فإن ما فعلته المليارديرة الأمريكية سكوت، وما يفعله الملياردير الرأسمالي غيتس من خلال مؤسسته غير الربحية، وما قاله الشيخ الحصين حول أنموذج مثالي للوقفيات يستوجب النقاش والحوار وورش العمل، وربما البحوث والدراسات الفقهية والإدارية، وهو موضوع يستحق، وحفظ الله العطاء بوطن العطاء، وبارك الله في الجهود، ووفق للصواب.