بسمة السيوفي

أخو الجهالة

الثلاثاء - 26 ديسمبر 2023

Tue - 26 Dec 2023

عندما تعرف أنك تعرف وتجاري من حولك في ادعاءاتهم اتقاء لشرور الجدل، فأنت في مرتبة المحسنين، وعندما لا تعرف وتعرف أنك لا تعرف.. فتبحث عمن يعرف في عصر زخم المعرفة.. فأنت في زمرة العقلاء الباحثين.

بين هذين البينين: المعرفة والجهالة نتأرجح جميعا؛ فلا يمكن للإنسان أن يكون عارفا في كل شؤون الحياة، ولا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك الحقيقة، ولا امتلاك المعرفة، فنحن كائنات تنفي الجهالة Ignorance منذ الولادة. الجهل القابع في الذات، والتجهيل المقرر على الوجود البشري، الذي يصنعه الآخرون وينشرونه بطرق علمية رصينة.. صناعة الجهل التي تفاقم المشكلات والتحديات في المجتمعات وتزيد من معدلات الفقر والتهميش والتضليل والكيل بمكيالين لفئات معينة.

يدفعني الخوض في موضوع الجهل والمعرفة إلى تسليط الضوء على فن اللامبالاة الذي يمارس سعيا وراء الراحة والسكينة، مقارنة بالوعي المفرط الذي يشقى به صاحبه.. فـ»ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، كما أنشد المتنبي. ولنفصل في أمر الجهل أكثر.. لا بد أن نكتشف وجوده عبر مراقبة الأفعال، ثم تأمل سلوكيات الأشخاص من حولنا.. هل بينهم من يجيب قبل أن يسمع؟.. ومن يعارض قبل أن يفهم؟.. وأيضا يناقش فيما لا يعلم؟ هذه الثلاثة هي آفة الاهتمام وعدو المعرفة وسلوك الجهال.. عندما لا تعرف ذاتك جيدا وتجهل الآخرين بشكل يشوش على الأفكار ويقيد الرؤية والفعل في نطاق معين.

ولنسجل هنا اعترافا صريحا بأن اللامبالاة بكافة أشكالها وتكويناتها غاوية ومثيرة؛ فكيف يمكن للفرد الواعي أن يقاوم المعرفة، وأن يتخلى عن ملكات المحاكمة المنطقية في عقله؟ كيف نميز بين التجهيل الممنهج وبين الوعي بالواقع في عصر يصنع الحيرة عبر تراكم المعلومات المتضاربة التي تصعب اتخاذ القرارات في الحياة؟ خاصة ونحن «نعيش نمط حياة سريعة الإيقاع تجعل البعض تائها وجاهلا بأكثر ما يجري من حوله.. يحمل أعباءه الذهنية والنفسية لدرجة تجعله يقبل ما لا ينبغي قبوله حرصا على العتق من دوامة الحيرة». هنا تنشأ اللامبالاة، ويتحول عدم الاكتراث بقسوته إلى رفض لحالات الوعي بما يجري.. كما يحدث الآن من تسطيح لمشاعر التعاطف مع أحداث غزة، والحروب المرفوضة بشكل عام.. فالشعوب العربية تساند معنويا وماديا وتفعل ما يمليه عليها ضميرها الحي لتخفيف وطأة العدوان وتقليص الخسائر وحقن الدماء.. إلا أن استمرار الصراع بدأ ينشر مشاعر التعود على الفواجع بدرجة مزعجة ومخيفة؛ فلم يعد بمقدورنا مشاهدة المزيد من المآسي على شاشة التلفاز، ولا الاستماع للمزيد من أخبار الحروب، تضاءل الاهتمام بما يحدث في السودان وأوكرانيا؛ لأن البساط سحب لمصلحة أحدث وأقدم صراع في المنطقة العربية، ولا يعني تسرب مشاعر التخدر والتبلد في الشارع العربي أو الدولي، أن المشاعر قد غابت، بل هو تعبير عن رفض الإحساس بالعجز أمام وقف ما يحدث، هناك هوة سحيقة بين الرغبة والإرادة.. مقابل العجز عن الفعل.. مشاعر عدم الاكتراث تتنامى مع فداحة الواقع. وهذا هو المنشود من استمرار أي صراع.

اللامبالاة هي حالة عدم الاهتمام بأمور تجري من حولنا.. هي جزء من الدفاعات النفسية الواعية التي تحمي الإنسان من مشاعر القلق والأفكار غير المرغوبة. هناك كتاب اسمه فن اللامبالاة للكاتب مارك مانسون، حمله في صورة لاعب فريق ليفربول محمد صلاح.. ليصبح من الكتب الأكثر مبيعا بعدها، يفصل هذا الكتاب في الصدمات، وأن الإنسان لا يجب بالضرورة أن يتصرف بإيجابية طوال الوقت، بل عليه التغلب على عقبات حياته بطريقة منطقية وواقعية بعيدا عن التهرب والخوف منها.

السؤال الجوهري هنا: هل اللامبالاة على إطلاقها هي فعل العاجزين بالرغم من التفاعل عاطفيا ووجدانيا مع ما يدور؟ يقولون إن استخدام التجاهل بشكل مناسب في العلاقات الإنسانية هو سلاح سلوكي ناجح ضد بعض الشخصيات السلبية من حولنا.. أن تصبح قادرا على فصل الذات عن المشاعر لكن في سياق إيجابي وصحي حتى لا تتحول الحياة إلى سلسة من الضغوط المتراكمة التي نقبلها بمحض الإرادة؛ فتتكدس مع الوقت مشاعر القلق والغضب من الذات ومما يحدث حولنا.. ثم نصاب كنتيجة للتراكم بأمراض عضوية.

أنت تمارس فن اللامبالاة إيجابيا عندما لا تأخذ الأمور بشكل شخصي.. وتظل تكترث للمشاعر وتتعاطف مع وجع الآخرين، وعندما لا تقارن نفسك بالناس وتركز على أهدافك وإنجازاتك موقنا أنك دوما بحاجة للتعلم لتكون أفضل، وعندما تحافظ على روحك السمحة اللطيفة أمام أشخاص وقحين، وعندما لا تكون حسودا أو غيورا وتسعد لفرح غيرك، وعندما لا تزيد خوفك بالاختباء مما تخاف منه في مناطق الراحة.. أنت وقتها وبجدارة تخطو خطوة الواثقين في عالم التجاهل والتخطي.

هناك حكمة عن المعرفة والجهالة تقول: الذي لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف.. هو جاهل فاتركوه، والذي لا يعرف ويعرف أنه لا يعرف.. فذاك عاقل فخالطوه، والذي لا يعرف ويعتقد أنه يعرف فهو أحمق فتجنبوه، والذي يعرف ويعرف أنه يعرف.. ذاك عالم فاتبعوه». أن تعرف ولا تبالي هي الحالة السلوكية الفضلى مقارنة باللامبالاة الناتجة عن الجهل.. أنت في هذه الحياة تتنقل بين اللامبالاة.. التجنب والترك.. أو المخالطة والاتباع.. فتخير ما شئت.. ارقص على إيقاعك الخاص ولا تعذب نفسك بما لا تملك حتى تنعم بلا جهالة.

smileofswords@