أميرة سعد الزهراني

رحلة سنغافورة التعليمية في الاختبارات الدولية

الاثنين - 25 ديسمبر 2023

Mon - 25 Dec 2023

تعد الاختبارات الدولية في التعليم أحد المؤشرات العالمية التي أصبح يشار إليها للتعبير عن جودة التعليم عالميا، فأصبحت معظم نظم التعليم تسعى للمشاركة في هذه الاختبارات بهدف إبراز قوة وجودة وتميز نظامها التعليمي، أو بغرض الاستفادة وتقييم النظام التعليمي، رغبة منها للحاق بركب الدول المتفوقة في هذا المجال، لرفع كفاءة التعليم والتعلم، وما إن تظهر نتائج هذه الاختبارات حتى تبتهج بعض الدول وتتحسر بعضها، ولكن الأهم من ذلك أن تخرج الدول بدروس تساعد في تطوير نظامها التعليمي.

ظهرت أخيرا نتائج اختبارات PISA 2022 على استحياء، وعند الحديث عن نتائج تعليمنا نجد ارتفاع العلوم والرياضيات لـ2022 بشكل بسيط، مع انخفاض القراءة مقارنة بـ2018، وإن كانت هذه النتيجة لن ترضي محبي وأصحاب القياس والتقويم بلا شك، ولكن لا ننسى أن إصلاح التعليم عملية معقدة صعبة التنبؤ، لتداخل كثير من العوامل كالثقافية والاجتماعية والسياسة وغيرها، ولن نتحدث في هذه المقالة أننا بحاجة إلى وقفة جادة أو حزم شديد، فالجميع يسعى بلا شك إلى ذلك، بل ومؤمن بأهمية تطوير التعليم، ولكنها دعوة إلى دراسة نتائج الدول والتجارب الناجحة للاستفادة منها.

وعند الرجوع والتأمل في نتائج هذه الاختبارات سواء PISA أو TIMSS لأعوام عدة نجد أن النمور الآسيوية متصدرة أعلى القوائم، وأكثر ما يُلفت النظر دولة سنغافورة رغم صغر مساحتها، إلا أنها رائدة في تطوير التعليم وتجربة تستحق التوقف عندها، وتسليط الضوء على إيجابياتها والاستفادة منها.

وقبل الحديث عن تعليمهم نستعرض نتائجهم في هذه الاختبارات، حتى تندهش عزيزي القارئ، وتحكم بنفسك على مدى تطور تعليمهم، ففي اختبار TIMSS الذي بدأ عام 1995 شاركت سنغافورة، وحصلت على المرتبة الثانية للصف الرابع بنقاط 523 (في العلوم)، وتوالت مشاركتها في الأعوام (2003، 2007، 2011)، وفي كل مرة تتصدر المراتب الأولى لتلك الأعوام، وفي آخر نتيجة لهذا الاختبار عام 2019 حصلت سنغافورة على 595 نقطة، وحققت المرتبة الأولى مقارنة ببقية الدول.

أما بالنسبة للصف الثاني المتوسط، فلن يختلف الأمر كثيرا، فكل مرة تحقق أعلى النقاط والمراتب إلا أن آخر نتيجة لها عام 2019 قفزت بنقاطها إلى 608، وتعد الدولة الوحيدة التي وصلت إلى هذا الرقم، وبفارق كبير عن بقية الدول، وبالطبع حققت المرتبة الأولى.

ننتقل إلى اختبار PISA الذي شاركت فيه سنغافورة للمرة الأولى عام 2009، وحصلت على المرتبة الخامسة، وتوالت مشاركتها في الأعوام (2012، 2015، 2018) لتحصل على المراتب الأولى وبارتفاع ملحوظ، حتى آخر اختبار عام 2022، وحصلت على المرتبة الأولى وبجدارة وبأعلى نقاط، والمتتبع لنتائج سنغافورة في الاختبارات الدولية يدرك أن ارتفاع نتائجهم في كل عام، يدل على وجود رؤية واضحة وفق خطوات مدروسة مستمدة من الواقع، والنتائج الملموسة والبعيدة عن الأيديولوجيات والأفكار النظرية.

تعد التجربة السنغافورية تجربة تستحق التوقف عندها وتسليط الضوء على إيجابياتها والاستفادة منها، وهذا ما جعلني أبحث عن أسرار تعليمهم، وتوصلت إلى بعض النقاط، ولعلي أشارككم فيها:
- اللامركزية ومرونة النظام، إذ ركزت سنغافورة على جعل نظامها التعليمي أكثر مرونة وحرية والقدرة على اتخاذ القرار، وهذا ما يسمح للمدارس باختيار أفضل البرامج والمشاريع للنهوض بطلابهم وتفوقهم.

- الاهتمام بالرياضيات والعلوم كمواد (أساسية) في جميع مراحل التعليم، مع تطبيق مبدأ few teaching, more learning الذي ينادي بتقديم القليل من التدريس مع مزيد من التعلم، فيركز المعلمون على تغطية موضوعات أقل مقارنة بغيرهم من البلدان، ولكنهم يغطونها بعمق بهدف إتقان الطلاب للمفاهيم والتركيز على التفكير، فنجد أن المعلمين يعرضون طلابهم لمسائل تتطلب تحديا وتفكيرا، وتستغرق وقتا أطول، وهذا ما يساعدهم في تعميق استيعابهم أي التركيز على الجودة والعمق بدلا من الكمية.

- تطبيق اختبار PSLE بهدف تحديد مستوى الطالب ومساره المناسب (سريع، عادي، متخصص)، وذلك حسب سرعة تعلمه وقدراته وميوله، وعند الحديث عن هذا الاختبار الذي يستهدف الطلاب بعد انهائهم المرحلة الابتدائية أي (10-11عاما)، نجد أنه يركز إلى حد بعيد على تطبيق المعارف والمهارات العملية في مواقف وخبرات لا على الحفظ أو التلقين، خلال استخدام مجموعة من المهارات العملية الأساسية مثل: الملاحظة، المقارنة، التصنيف، التواصل، الاستنتاج، التوقع، التحليل، التقييم... وغيرها، مع تنوع الأسئلة الموضوعية و(المقالية) في ذلك الاختبار، أي أن هذه المرحلة تركز بشكل كبير على تعزيز مهارات التفكير العليا لدى الطلاب، وهذا ما ينعكس بشكل واضح في اختباراتهم الدولية.

- فيما يتعلق بالمعلمين في سنغافورة نجد أن مهنة التعليم تعد من المهن الانتقائية، إذ تهتم سنغافورة باختيار وانتقاء المعلمين بعناية، فيُقبل واحد من أصل 8 متقدمين، وذلك وفق معايير وشروط مختارة بعناية. وفي المقابل، تعد مهنة التعليم من المهن الجذابة خلال تقديم رواتب أعلى من المتوسط بالنسبة إلى الأجور هناك، إضافة إلى التركيز على التنمية المهنية المستمرة للمعلمين، إذ يتم تخصيص وقت وموارد كافية لتطويرهم المهني المستمر خلال برامج التدريب والشبكات المهنية والتعلم التجريبي.

- التركيز على أهمية المساءلة والمسؤولية في النظام التعليمي، ووضع أهداف سنوية سواء للمدارس أو المعلمين، ويتم تقييم أدائهم بناء على مجموعة متنوعة من المعايير، بما في ذلك أداء الطلاب ومساهماتهم في المدرسة والمجتمع، وتتضمن نظم المكافآت والتقدير للمعلمين تكريمات ومكافآت مالية، وذلك لتشجيعهم وتقديرهم على الجهود التي يبذلونها في تحقيق الأهداف التعليمية، والإسهام في تحسين الأداء المدرسي والمجتمعي.

وأخيرا، أود التأكيد على أن الاختبارات الدولية ليست غاية بحد ذاتها، وإنما مؤشر جيد يمكن خلاله تقييم النظام التعليمي، والاستفادة من تجارب الغير، ولا سيما سنغافورة التي تتمتع بأفضل نظم تعليمية، فيمكننا الاستفادة منها وتعلم الكثير من هذه الدولة العجيبة.

ameerah_s_z@