هتون أجواد الفاسي

التغريبة الفلسطينية.. لم تنته

الاحد - 24 ديسمبر 2023

Sun - 24 Dec 2023

لم تعد الكتابة عن غزة وفلسطين ممكنة أو فيها موضع للتعبير عن الأمل أو الألم بعد أن تجاوز الظالمون المدى وما بعد المدى بسنوات ضوئية.

وفي الوقت ذاته ليس بوسعي الكتابة في شيء مختلف مهما اعتبرته مهما شخصيا.. فأحاول الاتكاء اليوم على رؤية أخرى للصورة الفلسطينية المجذوبة من كافة الجهات.. كانت الصورة الملحة والمطاردة لنا في صحونا ومنامنا صورة قوافل النزوح من شمال غزة لجنوبها مشيا على الأقدام والدواب وعربات ذوي الاحتياجات الخاصة وعربات الجر الأخرى.. الصورة الآن بالألوان بعد أن كان ما يسكن مخيلتنا نزوح باللونين الأبيض والأسود في نكبة التغريبة الفلسطينية التي أخذت كافة الاتجاهات بعيدا عن أراضيها وحقولها وبيوتها وحياتها السابقة إلى حياة الملاجئ، والمنافي، والبطالة، والحاجة والمساعدات الإنسانية.

حتى مبادلات الأسرى الفلسطينيين بالرهائن أوجعت وأدمت القلوب قدر ما هناك من ظلم وتعام وليّ حقائق ممنهج نجده في وسائل الإعلام الأجنبية الكبرى وخطابات رؤساء الدول الكبرى.. ولكن هذا ليس بجديد.

سأشارككم ببعض عوالم الرواية الفلسطينية التي هي في مجملها نصوص توثيقية للتاريخ والجغرافيا والحيوات الهائمة حول أرضها. ما عبرت خلال صفحاته مؤخرا كان نصين يتنافسان في أهميتهما من وجهة نظري؛ «شجرة الليمون» لساندي تولان (صدرت عام 2006) كتبها كوثائقية للراديو الوطني العام NPR و»بينما ينام العالم» لسوزان أبو الهوى الذي كتبته باللغة الإنجليزية عام 2010 وقدمته سامية شنان تميمي في ترجمة من أبدع ما يمكن وكأنك تقرأ الرواية في لغتها الأصلية في 2012.

شجرة الليمون، قصة حقيقية لشخصين اشتركا في بيت شجرة الليمون بالرملة.

وقام المؤلف بتوثيق قصة تقاطع حياتيهما في محاولة لتقديم الروايتين الفلسطينية واليهودية بأقصى تجرد ممكن، أظهر تقاربا في الحنين الإنساني للوطن، لكن مع الكثير من الفروقات التي يصعب مساواتها أو التغاضي عنها، ظلما وعدلا.

قصة بشير الخيري الرملاوي لأسرة تعود إلى أكثر من ستمائة عام، المولود في بيته بالرملة ست سنوات قبل النكبة وداليا أشكنازي لنداو البلغارية التي ولدت في صوفيا شهورا قبل النكبة ثم انتقلت مع أسرتها إلى الرملة التي كوفئ والداها الناجيان من الهولوكوست ببيت الخيري الذي ترعرعت فيه هناك على أصداء وبقايا أثاث وممتلكات ومقتنيات الأسرة التي هُجّرت بين ليلة وضحاها. في حين تهجرت أسرة الخيري التي كان كبيرها عمدة المدينة وراعيها، وبعد محاولة الاستسلام بشروط كريمة، وجدوا أنفسهم مجبرين على إخلاء بيوتهم تحت أوامر بن غوريون ورابين، قادة الميليشيات آنذاك وأسلحة جنودهم الذين اقتحموا اللد والرملة. وانتهوا في حافلات جماعية أنزلوهم منها بعد أن وصلوا حافة المدينة ثم أمروهم بالاتجاه شمالا. كانوا يحملون أثمن ما قدروا على حمله بدأوا بحقائب ما لبثت أن تركت واستغنيَ في منتصف الطريق، وهم ينزحون مشيا على الأقدام شمالا إلى رام الله، حيث حدود دولة شرق الأردن، تحت شمس يوليو والعطش والجوع على أرض وعرة من الحجارة والطين ترتفع تلالها وجبالها أمامهم.. ساعات وكيلومترات لا تنتهي يمشون دون هدى ومنهم من قضى ومنهم من وصل إلى قرية «سلبيت» التي طهرت عرقيا في منتصف يوليو لتأخذهم، بعد انتظار طويل، حافلات الجيش العربي إلى رام الله التي وجدت نفسها أمام أزمة سكانية بدأت بالاستضافة ثم بناء مخيمات مؤقتة ما لبثت أن أصبحت مخيمات دائمة.

آل الخيري كان بينهم ومنهم من مضى إلى مدن أخرى ومنهم من استقر في غزة بعد سنوات من انتظار نصرة الجيوش العربية دون جدوى.

بشير وبعد أن أكمل الثانوية استطاع والداه إرساله إلى مصر لاستكمال دراسته، حيث درس القانون الذي ترك بصمته على هذا الفلسطيني مأكول الحق، فدخل في صراعات حقوقية وقانونية متواصلة مع سلطات الاحتلال لاسيما بعد حرب 1967 التي رفض بشير بعدها أن يأتمر بحكم المحاكم الإسرائيلية واعتبرها غير قانونية، وبقيت هذه نقطة مقاومته مدى حياته التي طالت إلى اليوم وهو يدخل ويخرج من السجون الإسرائيلية في فترة خامسة من الاعتقال بتهمة منذ 1968 إلى اعتقال إداري في أكتوبر 2021 استمر ثمانية أشهر بعد سلسلة من الأوامر المتناقضة إلى الإفراج عنه في يوليو 2022 وبعد 8 شهور وهو مكبل اليدين والرجلين وكثيرا ما عصبت عيناه وقد بلغ الثمانين من عمره ويعد أكبر المعتقلين الإداريين سنا وأول من قاطع المحاكم الإسرائيلية باعتبارها غير قانونية.

ولو أن الحديث عن اعتقالات الخيري تقود إلى سياسات الأسر وحالة السجون الإسرائيلية التي تقطر مأساوية إلا أن حديثي هنا هو مجرد إشارة إلى جزء من مسيرة أحد أبطال هذه الرواية التوثيقية الذي قرر بعد النكسة وضم الضفة الغربية إلى أرض 48 أن يزور مع أبناء عمه مدينتهم الرملة وبيوتهم التي بناها آباؤهم فيها.

وهنا كانت تجربة المواجهة التي قابل فيها بشير داليا في بيتهم، وفي حين كانت تجربة أبناء عمه سلبية بالطرد والتهجم، استقبلت داليا القادمين واستمعت إلى الصوت الغائب في هذه الجدران والغرف وشجرة الليمون التي زرعها والده في قلب الدار.

نشأت داليا لا تعلم شيئا عن ماضي البيت أو المدينة وقد مسح تاريخها شيئا فشيئا مع مسح أسماء شوارعها ومحالها ومآذنها والتاريخ الذي يدرس في مدارسها.

لكن منذ ذاك التاريخ تبدأ علاقة غير تقليدية بين محتل ومحتل تستمر قربا وبعدا عقودا من الزمان، حتى تنتهي إلى تحويل بيت الخيري في الرملة إلى دار سلام يدعى «البيت المفتوح Open House» بين أطفال فلسطين 48 واليهود ممن يؤمنون بحق الفلسطينيين في أرضهم وحياتهم.

لكن الذي استرجعته ذاكرتي القريبة كانت، صورة التهجير القسري الذي مارست فيه الميليشيات الصهيونية الإرهابية من الهاجاناه، إرجون، بيتار، شتيرن وبلماخ، كل أشكال التنكيل والترهيب للدفع بمئات الآلاف من أبناء المدن والقرى الفلسطينية للخروج غربا وشمالا وجنوبا بعيدا عن ساحل حيفا ويافا ومدن الرملة واللد والقدس في ظروف لا تختلف كثيرا عن الصور التلفزيونية للنزوح الثاني من شمال غزة إلى جنوبها فجنوب جنوبها فجنوب غربها حتى يتم هرس وتكديس مليوني فلسطيني في بقعة لا تحتمل ولا بضعة آلاف على سطحها وخالية من أي مقومات الحياة، لتحويل حياتهم إلى درجة أخرى من درجات الجحيم والتنكيل التي لم تعد تجد لها مفردات ملائمة لوصفها ووصف أساليب الإبادة التي تستخدمها قوات الاحتلال بمعونة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وبريطانيا، قادة العالم «المتحضر» اليوم أمام تلفزيونات الكرة الأرضية على الهواء مباشرة في تحد لكل قيم الإنسانية وقوانينها.

وبالمثل كانت رواية بينما ينام العالم التي سأشير إليها لاحقا.