هند علي الغامدي

هل نتلطف بالإنجليزية؟

الاحد - 24 ديسمبر 2023

Sun - 24 Dec 2023

ظاهرة التلطف ظاهرة معروفة في اللغة العربية، وتعني العدول عن استعمال بعض المفردات المبتذلة أو الخادشة للحياء، أو المثيرة للخوف أو المرتبطة بمعان أو مواقف مخجلة أو مخيفة أو مذمومة أو مستهجنة أو محزنة أو حتى مقدسة، إلى معان أخرى؛ تأدبا، أو تفاؤلا، أو تشاؤما، أو احتراما، أو تقديسا، وغير ذلك مما يندرج تحت باب «التلطف».

وتتصل بظاهرة «المحظور اللغوي» التي تعني حظر استعمال كلمات معينة لما تثيره عند النطق بها من مشاعر وإيحاءات، وما تؤديه من معان غير مقبولة مجتمعيا تمنع استعمال الكلمة الأصلية للتعبير، وتوجب العدول عنها إلى كلمة أخف وطأة على الأسماع والقلوب وأكثر قبولا، وقد لا تكون بالمعنى نفسه؛ بل قد تعني في الحقيقة عكسه، أو المتأمل وقوعه، أو شيء يتصل بالمعنى الأساسي مثل مكان وقوعه أو زمانه، ويظل اللفظ الجديد يستعمل للتعبير عن ذلك المحظور إلى أن يكرس له، ويحدث هذا إلى درجة أن بعض تلك الألفاظ يتغير معناها الأصلي ولا تعود تستعمل للتعبير عنه أبدا؛ بل إن الألفاظ التلطفية نفسها التي استعملت كثيرا في التعبير عن المحظور اللغوي- ولا سيما إن كان مما يخدش الحياء أو يثير الاشمئزاز - تصبح مبتذلة؛ فيتم هجرها إلى لفظ جديد لا يثير في النفس تلك المشاعر والانفعالات غير المحببة.

ومن أمثلة ذلك الكلمات التي تعبر عن المرض وأنواعه، والعيوب الجسدية، والعاهات، والموت، وبعض أعضاء الجسم، والملابس الداخلية، والحاجات الفطرية والغريزية لدى الإنسان؛ فيقولون مثلا (فلان أعطاك عمره)، و(فلان في ذمة الله)، و(البقية في حياتك)، و(العمر لك)، ولا يقولون (مات)، ويقولون (فلان بعافية) ولا يقولون (مريض)، ويقولون (بصير) ولا يقولون (أعمى)، ويقولون (سليم) ويقصدون (لديغ أو ملدوغ)، ويقولون (انكسر الشر) وليس الإناء، ويقولون (يوجد الخير) من باب التفاؤل حين لا يوجد شيء.

ومع أن هذه الظاهرة مرصودة في اللغة العربية نفسها؛ حيث تستبدل ألفاظ عربية مقبولة اجتماعيا بألفاظ عربية غير مقبولة أو محظورة، إلا أننا اليوم نرى انتقال مضمارها؛ لتصبح موزعة بين لغتين من أسرتين لغويتين مختلفتين؛ تُستبدل ألفاظ إحداهما بألفاظ من اللغة الأخرى، وهو ما بات ملاحظا لدينا في العربية.

فمثلا؛ نرى ونسمع العرب يقولون (shoes) ولا يقولون (حذاء)، ويقولون (sick) ولا يقولون (مريض أو مصاب)، ويستعملون الكلمات الإنجليزية للتعبير عن بعض أعضاء الجسم الحساسة، ويقولون (gay) ولا يقولون (شاذ)، ويقولون (toilet) ولا يقولون (دورة مياه) أو الاسم المعروف في العربية، ويقولون (homeless) ولا يقولون (مشرد أو بلا مأوى)، ويستبدلون عددا من الكلمات الإنجليزية التي تعبر عن أسماء الملابس الداخلية بما يقابلها من الألفاظ العربية، ويقولون (sorry) ولا يقولون (آسف)، ويقولون (excuse me) ولا يقولون (اسمح لي أو اعذرني)، والأمر يطول، ولعل الأمر يحتاج إلى دراسة إحصائية، لأن الظاهرة شاعت في المجتمع حتى عند من لا يجيدون الإنجليزية، ربما لأنهم يجدونها ألطف أو أقل إحراجا.

فالبعض مثلا لم يتعود على عبارات الاستئذان، أو الاعتذار بالعربية، وقد يشعر بالحرج عند استعمالها، لكنه يجد ذلك سهلا بالإنجليزية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الألفاظ الخاصة بالتعبير عن الاستياء والغضب، أو ببعض أنواع الملابس والأمراض.

فريما كان تحول البعض عن أسمائها العربية إلى الإنجليزية بسبب ما تثيره في الأذهان عند سماعها من المعاني وظلالها والإيحاءات المرافقة لها، مثل كلمة (سرطان) التي تحولت إلى (cancer)، وهي التي تم التحول عنها في العربية إلى (المرض الخبيث)، ولكن يبدو أن هذا المسمى أيضا تم هجره أخيرا، لما يثيره من الفزع والحزن المرافق لمجرد النطق به، وما يستدعيه من ذكريات وأحداث مؤلمة.

وقد شاع الأمر حتى أصبحت الإنجليزية هي الأساس لدى البعض، فهل هذا نوع من التلطف؟، وهل تلك الألفاظ الإنجليزية المستعملة يمكن أن تكون أكثر لطفا من العربية؟ أم أن العربية خلت من ألفاظ عربية نتخلص بها من تلك الألفاظ المحظورة أو شبه المحظورة لغويا؟ أم أنَّه لا يوجد في العربية ما يكافئها في التعبير؟، هل السبب وضوح المعنى وما يصاحبه من المشاعر والانفعالات المحرجة أو المخجلة أو المحزنة أو المخيفة في الألفاظ العربية - بصفتها لغتنا الأم - وخفاؤها في الألفاظ الإنجليزية؟

أم أن اللفظ الإنجليزي ألطف بالفعل؟ أو ربما قد يكون لإظهار المكانة والثقافة، أو التخفي وراء تلك الكلمات، فألفاظ الشتم العربية قد تزري بصاحبها؛ فيلجأ إلى الإنجليزية تخفيفا لوطأتها على السامعين، وتنصلا من الوصم بسوء الخلق أو عدم الرقي، أو ربما بسبب التقليد حتى شاعت وانتشرت وتنوسيت الكلمة العربية الأصلية إلى أن نُسيت.

والظاهرة السابقة ظاهرة لافتة للنظر، طالت الكبار والصغار من متحدثي الإنجليزية وغيرهم، ومن المتعلمين وغيرهم، وإذا قلنا إن التلطف هو المبرر للعدول عن اللفظ العربي إلى اللفظ الإنجليزي فيما سبق، فكيف نبرر استعمال بعض الكلمات التي تعبر عن معان عادية، مثل كلمة (okay) التي حلت محل (طيب، تمام) حتى كادت تنسب إلى العربية، وربما يأتي يوم يظن الأبناء أنها عربية بسبب دوام استعمالها؟ ومثلها (nice، usually، already، ready، cool، bye، thanks، as you like، take care، don’t worry، again، quickly، hi، book، presentation، see you ،meeting)، وغيرها كثير من الكلمات الإنجليزية العادية التي يرقع بها العرب أحاديثهم العربية.

فهل لتلك الكلمات سحر خاص يجعلنا نحشرها في أحاديثنا، وهل الكلمات العربية المقابلة لها تفتقر إلى هذا السحر؟ أم أن المثل العربي (زامر الحي لا يُطرِب) ينطبق على لغتنا العربية وكلماتها أيضا؟

وإذا اعتبرنا بعض تلك الاستبدالات من باب التلطف؛ فلماذا يكون التلطف بترك اللفظ العربي واستعمال الإنجليزي؟ ولماذا لا يحدث العكس؟ هل لأن الناطقين باللغة الإنجليزية يملكون من الحب والولاء والاعتزاز بلغتهم أكثر مما نملك؟

هل كان دخول الإنترنت سببا في انتشار هذه الظاهرة خصوصا مع وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثة التي تستعمل فيها كلمات إنجليزية عادية، مثل الكلمات السابقة؟ هل كانت العولمة وانتشار الإنجليزية وثقافتها سببا، إضافة إلى جملة من الأسباب التي ربطتها بالمكانة الاجتماعية والرقي الاجتماعي لدى البعض؟ وهل الأمر له علاقة بالانبهار بالشخصية الغربية ولغتها وثقافتها؟ هل له علاقة برسوخ الهوية العربية والإسلامية؟ أم إنها لوثة الإفرنج التي حذر منها شاعر النيل حين قال:

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعابُ الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات

ورغم عدم وجود تعليلات شافية وإجابات محددة عن تلك التساؤلات؛ إلا أنه مما لا شك فيه أن التلطف له وسائل متعددة للتخلص من المحظورات اللغوية ليس من بينها استعارة مفردات من اللغات الأخرى، ويبقى علينا الاستمرار في مناقشة الأمر وطرح الأسئلة التي نكتشف خلالها مكامن ضعفنا وتقصيرنا ومواطن قوتنا وعزتنا، ونعيد خلالها صقل هويتنا العربية والإسلامية التي تمثلها في الدرجة الأولى لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.