كيف يصف أهل غزة مأساتهم؟
الأربعاء - 20 ديسمبر 2023
Wed - 20 Dec 2023
صديقي الغزاوي، من زاملني في سنوات دراستي بجامعة الإسكندرية، لم يقطع التواصل معي من قلب سجن غزة طوال العقود الماضية، ولعل الفضل في ذلك يعود للإنترنت، التي تخرج الحي من الميت.
كان يكاتبني ويهنئني في المناسبات، ويتمنى رؤيتي، كونه غير قادر على مغادرة غزة، التي يعشقها للثمالة، فيحاول صنع حياة لنفسه ولأبنائه، تتمثل بعيشة مهما كانت منقوصة مكتومة بالحصار.
صديقي كغيره من أهل غزة محكوم باختيار التشبث بالأرض، أو المقامرة بالخروج إلى مجاهل الهجرة، والذل، وطلب الحصول على ملجأ، أو حضن عربي يعطي له ولأبنائه بدلا عن وطنه، أو التشبث بمركب خوف متهايل، يبحث عن شاطئ غربي، برحلة قد تعترضها عصابات الإتجار بالبشر.
صديقي لم يكن يوما عنيفا، ولم يرب أبنائه على الكره، وكان يرضى بشرب المر، حتى وإن ذاب كوعه من كثرة سيلانه.
صديقي كتبت له يوم هجمة حماس سبعة أكتوبر، أطمئن على أحواله، فكان رده السريع بأن الأحوال «عجقة»، وأنهم يطلبون منه مغادرة المبنى، حيث سيتم تدميره!
وانقطعت أخباره أسابيع، قبل أن يجد شاحنا لهاتفه، فيخبرني أنه وأسرته المرتعبة يظلون ينفذون تعليمات تجنب القصف العنيف الأعمى فيهربون من بقعة ملتهبة لبقعة خراب، ويمشون بين الجثث عشرات الكيلومترات، حيث قيل لهم إن جنوب الوادي منطقة آمنة، فما أن بلغوها، إلا ودفعوا لبوابة رفح، التي زجروا عنها، وتمت إعادتهم للخلف، ليعودوا لمنطقة النصيرات، ويجدوا بيتا صغيرا استأجروا فيه زاوية سكنوها ومعهم مائة واثنان وستون هاربا، من أعمار شهر، إلى من تعدوا الخمسة والسبعين من العمر!
المساعدات يسمعون عنها ولا تصلهم، وكيس الدقيق بمائتي دولار، وعلبة الفول بخمسة وعشرين دولارا، وكيلو الأرز بخمسة دولارات، إن وجدت، ولا كهرباء ولا ماء نظيف، ولا غاز، والحطب يشترى الكيلو منه بدولارين!
وسط هذه الأجواء الملتهبة الدموية، وتغيير مكان الإقامة هروبا من القصف لا يستطيعون أخذ قسط من النوم أو الراحة، والقصف المتقطع ينثر حولهم الأشلاء، ويعاظم روائح الجثث المتعفنة، وصديقي وأسرته ما زالوا يكافحون للإبقاء على أرواحهم ما أمكن، مع نقص المعلومة، وضياع القيمة، والهوان على منظمات حقوق الإنسان، وعلى الإخوة العرب، وعلى كل ضمير عالمي.
صديقي يحدثني عن يقين يعيشونه واقعا، بأن الضغط المتواصل على أهل غزة يقصد به بلوغ الفصل الأخير من مسرحية الكوميديا السوداء، والخروج القسري إلى صحراء سيناء، وهي كما يقول: مؤامرة عظيمة أمريكية إسرائيلية أوروبية عربية تعاضدت فيها قوى الظلام، ومؤكدا أن قيادات حماس الهاربين إلى قطر وتركيا ولبنان هم أبطال تلك المسرحية، ينفذون سيناريو المأساة، وقبل سدل ستار الانتخابات الأمريكية، وبما يتوقع من إعادة ترتيب وتهيئة وتلميع مسارات الحكومة الإسرائيلية، بإتمام مسرحية الصفقة.
صديقي المطحون يفضفض لي وهو يعلم أن الحل ليس بيدي، ولكنه يجد عندي بعض سلوى، ومشاركة، وطلب دعاء بالنجاة مما هم فيه، ونشر معلومة قد تضيء لأهل الحل والربط، وقد تمر مرور السحابة الصيفية، وقد تصبح ذكرى، نتحسر عليها يوما، حينما تختفي فلسطين عن الشاشة، ليس بأسباب انقطاع الكهرباء، ولكن بانقطاع الوعي والضمير الإنساني، وغباء القادر الساكت عما يحدث، ولو بأضعف الإيمان.
shaheralnahari@