عمر العمري

جودة بيئة العمل بين الحقيقة والألم

الاحد - 17 ديسمبر 2023

Sun - 17 Dec 2023


بكل صراحة ووضوح وواقعية مؤلمة كل المبادرات التي أطلقتها الكثير من الجهات والقطاعات الحكومية في مجال جودة بيئة العمل باختلاف مسمياتها مثل: جودة الحياة في بيئة العمل، سعادة الموظف في مقر عمله، تحسين بيئة العمل للموظفين، تعزيز الرفاهية والرضا العام للموظفين، التوازن بين العمل والحياة الشخصية.. وغيرها الكثير وبالإجماع لم تحقق أي جهود البتة على أرض الواقع، ولم تلامس أي موظف قطاع مهما كانت ظروفه أو معناته ولو بكلمة طيبة فضلا عما ادعته من أهداف أثناء التدشين الإعلامي، وكأنها حبر على ورق، أو ليس لها وجود من الأساس، وأعتقد أنها «للشو الإعلامي للمسؤول» بالاتفاق المسبق، والسؤال عن مثل هذه المبادرات هل لها متابعة حقيقية من الإدارات العليا أو استفتاء الموظفين عنها أم أنها متروكة هكذا في مرحلة الورق ومحسوبة عليهم؟
كلما يأتي هذا الموضوع أتذكر قصة حزينة تبكيني دائما (وتبين انعدام جودة بيئة العمل) لأحد الموظفين زاملته في مرحلة سيئة من حياتي العملية وكان وقتها متقدما في السن وصاحب سنوات طويلة في العمل ومن الموظفين القدماء الذين يجيدون اللغة الإنجليزية ومهارة الطباعة على الآلة الكاتبة القديمة، لكن كغيره من أبناء جيله الذين أقصتهم التقنية واستخدام الحاسب الآلي عن التقدم والقيام بالكثير من المهام والأعمال الإدارية وقتها، عانى من التهميش والتجاهل فترات طويلة من المسؤولين ومن تعاقب على هذه الإدارة أو الجهة، خدم هذه الجهة سنوات طويلة بجد وإخلاص وكفاءة وكان قمة في حسن الخلق والحس الإنساني والانضباط العملي والحضوري، حيث كان يأتي مبكرا جدا من أوائل الموظفين حضورا ليس على مستوى هذه الإدارة فقط بل الجهة أيضا، وهو في هذه السن المتقدمة أسند إليه عمل «مراسل» وكغيره الكثير.. لا يستطيع أن يقدم على التقاعد المبكر بسبب ظروفه الخاصة، اعتراه ما يصيب بني البشر (ولا أحد معصوم) على المستوى الصحي وكذلك على حالته النفسية وأصبح لا يتحدث إلى أحد إلا من يتحدث إليه أو يوجه له سؤال ويجاوب على قد سؤاله فقط، اشتدت حالته سوءا فأصبح يحضر أيام ويتغيب أياما ويقدم فيها إجازة من رصيده، وكان عنده رصيد إجازات كبير بسبب انضباطه وإخلاصه لسنوات طويلة مضت، في أحد المرات في آخر حياته رفض المسؤول الموافقة على نموذج الإجازات التي رفعها بسبب كثرتها على حد قوله، فتضايق الموظف كثيرا الذي يكبره سنا وتأثرت حالته النفسية ونطق فجأة وهو عادة لا يتحدث لأحد وقال «ابني عمر» (الكلام موجه لي) - وكأن الأقدار تشاء أن أسمع ما يقول وأكتب عنه لكم يوم ما - خدمت هذه الجهة في شبابي وكنت بصحتي فترات طويلة من حياتي كنت آتي بعد الفجر وأغادر قبيل المغرب دون حوافز تذكر لكن رغبة وإخلاصا وتفانيا وحبا لهذا العمل، وأثر ذلك على حياتي الاجتماعية، ولكن الأمر كما تشاهده وتسمعه أعمال بهذه المعاملة غير الإنسانية وأنا في هذه الحالة الصحية الحرجة وهذه السن المتقدمة.. سكت قليلا ثم رفع يده إلى السماء وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل فوضت أمري كله لك» جلس بعدها فترة ليست بطويلة حتى وافته المنية وهو مازال على رأس العمل وصدمت بهذا الخبر الحزين وعلقت في وجداني هذه القصة المؤلمة «رحمك الله يا غالي وإلى جنة الخلد».

هل هناك حالات مشابهة لهذا الموظف الآن؟ الجواب بكل تأكيد نعم، هل نستطيع أن نعالجها أو نتفهمها أو نتعاون معهم ونصل إلى أفضل وضع متوازن بين العمل ووضعهم الصحي والنفسي وكيفية الاستفادة منهم؟ الجواب وفق الوضع الراهن: لا أعلم.

تعد جودة الحياة في بيئة العمل أمرا حاسما ومهما لنجاح أي جهة أو كيان، لماذا؟ لكي نحافظ على حجم الفئات المتميزة والمتوسطة من الموظفين وألا تتناقص مع الوقت بسبب ضعف جودة بيئة العمل أو بسبب الممارسات الخاطئة من المدير المباشر، فيكون العلاج أبهظ ثمنا، فهل المسؤول يدرك ذلك؟
عندما يكون لدينا بيئة عمل صحية وملهمة، يتم تعزيز الرفاهية والرضا العام للموظفين، ينعكس ذلك إيجابيا على أدائهم وإنتاجيتهم، أولا وقبل كل شيء، يجب تحسس واستقصاء ومعرفة كل الموظفين في هذه الإدارة، قياس حالتهم النفسية والإدراكية، التأكد من حصولهم على كامل حقوقهم الوظيفية والإدارية وفق خبراتهم وكفاءتهم، معرفة متطلباتهم لمحاولة التقرب منها وتحقيها قدر الإمكان والمتاح من الجهة، وسيبقى تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعملية هو أساس جودة الحياة في بيئة العمل، يجب أن يتاح للموظفين الوقت الكافي لقضائه مع العائلة والأصدقاء والمشاركة في الأنشطة الترفيهية والاهتمام بصحتهم الشخصية، وتفعيل برامج التوازن بين العمل والحياة الشخصية، مثل إمكانية العمل من المنزل أو تنظيم ساعات العمل المرنة، وتعزز راحة الموظفين وتعطيهم فرصة للاسترخاء وإعادة الطاقة.

تأتي بعد ذلك الثقة والتواصل الفعال من أساسيات جودة الحياة في بيئة العمل، يجب أن يكون هناك بيئة عمل تتقبل الجميع ومفتوحة لمشاركة الآراء والأفكار بشكل فعال، يجب على القادة والمديرين تعزيز الثقة بين الفريق وتشجيع التواصل الفعال والاستماع إليهم، عندما يشعر الموظفون بأن صوتهم مسموع وأنهم جزء مهم من صنع القرار، سيتحسن العمل الجماعي والمشاركة وسيزداد الانخراط في العمل، وسأقولها دائما نحن نعاني من أزمة قيادات في الإدارات الوسطى والصغيرة، بسبب الذاتية في اختيار المدراء على أساس من يسمع الكلام وينفذ، وليس على أساس الكفاءة والخبرة، وبالتالي يغيب الاختلاف الإيجابي الذي يطور ويحسن جودة العمل.

السعي لتوفير بيئة عمل آمنة وصحية للموظفين، ومساحات مكانية ومرونة وقتية لبرامج اللياقة البدنية (رياضة المشي على الأقل) والتغذية الصحية والتوعية بمكافحة التوتر والاحتراق الوظيفي، إن الاهتمام بصحة وسلامة الموظفين يؤدي إلى زيادة الرضا والإنتاجية.

أخيرا، تعزيز التنمية المهنية والفرص التطويرية وإكمال الدراسات العليا هي جوانب أساسية لجودة الحياة في بيئة العمل.

يجب أن يكون هناك إمكانية للتعلم والتدريب المستمر، سواء من خلال الدورات التدريبية الداخلية أو الخارجية، وتقديم فرص الترقية والتطوير، عندما يشعر الموظفون بأنهم مدعومون في تحقيق أهدافهم المهنية وتطوير قدراتهم، فإنهم يشعرون بالاستيعاب والرضا ويصبحون عناصر قيمة في الفريق.

باختصار، جودة الحياة في بيئة العمل المعدومة الآن وقد لا تأتي على بال المسؤول ليست مجرد رفاهية، بل هي أساس للإنتاجية والنجاح، من خلال خلق بيئة عمل صحية وملهمة وتشجيع التوازن بين العمل والحياة الشخصية وتعزيز الثقة والتواصل الفعال وتوفير بيئة عمل آمنة وصحية وتعزيز التنمية المهنية، يمكن للجهات والمنشآت تحقيق جودة الحياة في بيئة العمل والاستفادة من الإنتاجية وما يتبع ذلك من تفوق وإبداع وحلول ابتكارية ذات كفاءة وجودة للكثير من المشكلات التي تعاني منها، يقول المثل: لا يموت الإنسان في السجن من الجوع، لكنه قد يموت من الانتظار.


3OMRAL3MRI@