حسن علي القحطاني

بنك الكذب والكذابين

الأحد - 17 ديسمبر 2023

Sun - 17 Dec 2023


تقدم لنا الحياة اليومية مشاهد متعددة من صنوف الكذب، بعلاماته ولغاته المتعددة الخاصة والعامة، وكثيرا ما شكلت إدانة الكذب من الناحية الأخلاقية عائقا يحول دون تقدير طابعه المتشعب المعقد.

في المشهد العام عندما يقوم أحد السياسيين أو المسؤولين أو الأعيان أو حتى أحد الجيران بالكذب عيانا بيانا فإنه رغم يقيننا بعدم صحة كلامة؛ وبقدر ما يصدمنا انتهاك حرمة الحقيقة نكظم مشاعرنا مكرهين؛ إما لحياء حميد تربينا عليه أو لازدراء هذا الفعل، ولكن بالتمعن قليلا في طبيعة البشر، وألوان خطاباتهم يجعلنا ندرك الغنى المذهل لبنك الكذب والكذابين التي لا تنفذ أرصدتهم.

ولو تمعنا في قدرة الكذوب الإبداعية نجد أن موهبة الحديث بغير الحقيقة ذات غواية وشجون، وتجعل ميل الفطرة البشرية تلقي بظلال الشك على جميع المتحدثين إذا ما فضحت المواقف أمر أحدهم رغم أن حديثه يختبئ وراء الصوت الرنان والنظرات المرسومة.

وأتعجب من حال المصاب بداء الكذب ومشتقاته؛ كيف يتحمل عقله شراسة الحرب الدائرة بين الحقيقة ونقيضها؟!!.

الكذب لن يظل حبيس الروح الخبيثة، والجسد ليس عربة تهتز تحت وطأة حمولتها الثقيلة من الكلام المزيف، ولا سطحا شفافا يكشف عن الصراع بين المكر والحقيقة.

الكذب يفرض سلوكا متكاملا ومتحولا يشرك العاطفة والعقل معا، ويولد بنية ذهنية مركبة مضطربة تصل في نهاية المطاف إلى نفس مريضة، تصنعها الكلمات والأفعال، وتعريها الأعذار والمواقف والأحكام الخاطئة.

الكذاب ممثل هزلي محترف، يتقمص شخصية أخرى فيصعب كشفه، وتزداد الصعوبة كلما كان الكذوب ذا حنكة ومتمرسا، وهذا أخطرهم؛ لأنه يعرف الحقيقة ويقرر طمسها ويقول نقيضها، يكذب عن عمد وإصرار وتصميم، يقدم الوقائع بمظهر خادع ومموه ويجير اللغة ليقنعك بوجود عدة نسخ للحقيقة، باعتبار أن هناك الكثير من المواقف التي لا يمكن فيها تحديد الكذب بوضوح.

الأعجب؛ أن نظرة الكاذب إلى كذبه تفصل الحقيقة إلى مقاسات وألوان، فهناك كذبات صغيرة، وهناك نصف كذبه، وكذب أبيض وأسود وأحمر.

أخطر كذبة وأهمها في الوقت ذاته؛ الكذبة التي يكذبها الفرد على نفسه، ويصل عبر عمليات من الإقناع الذاتي إلى تصديق أكاذيبه الخاصة، بحيث يتحول الكذب هنا إلى مسألة خطيرة تتجاوز نطاق الأحكام الأخلاقية وتؤدي لاعتباره اضطراب عقلي.

أيضا أخطر الكذابين الذين لا يعلمون أنهم يكذبون، لاسيما عندما تنطلي كذبتهم على الآخرين، وعلى أنفسهم في الوقت عينه، وهنا يبدي الكاذبون مواهب فذة في تدعيم أكاذيبهم بالمواقف والقصص البعيدة عن الحقائق، بل وتأليف ما لا ينتهي من الحكايات الخيالية، والطريف أن الجهد المبذول في توليد هذه التفاصيل وتجميعها من أجل تزوير الحقيقة ينقلب إلى كاشف لكذبهم، فالاستمرار في طرح المزيد من الروايات التي يبالغ فيها ويزيدها وينقصها يفضح نفسه، ويظهر ما تخفي روحه من نوايا مضمرة، ومشاعر مزيفة.

أخيرا، الحياة اليومية ذاتها قد تضعك في مواقف تعتقد أنها تجبرك على الكذب أو لنقل الكثير منه، بل قد يطلب منك كي تتلافى الاصطدام بالآخرين، تحت بند المجاملة والمديح والمجاراة وربما المفاخرة والمجاهرة التي قد تصل إلى حد الرياء، والاضطرار لها بدواع منها الخوف من العزلة عن البشر وأن هذا هو الطاغي على طباعهم وإلى ما هنالك، وكل هذا أوهام تسكن تأنيب الضمير فقط، أن قول الحقيقة مهما كانت الظروف نعمة عظيمة تحتاج فيها إلى فن اختيار الكلمة وأسلوب في إيصالها بدون الدخول في معارك خاسرة.



hq22222@