خضر عطاف المعيدي

الجسد كعلامة تجارية معاصرة

السبت - 16 ديسمبر 2023

Sat - 16 Dec 2023


«حينما يتعفن جسدك، تصادق مع الذباب...»
- خضر.
للمال سلطة لا تجاريها سلطة، وسحر لا يجاريه سحر، فمنذ فجر التاريخ والإنسان يبحث ويسعى ويشقى للمال، كي يوفر به لقمة العيش، وكي يستر ماء وجهه عن طلب الناس، وفق طرق مشروعة.

ولكن، حينما يرتبط المال بإثبات النفس، والسعي نحو الثراء الفاحش، والتنافس مع الغير في ميدان الاستعراض، والتعالي على الغير بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، فهنا يتحول السعي نحو المال إلى سعار يضحي من أجله الإنسان بكل قيمه ومبادئه وأخلاقه للحصول عليه، ولو بنبذ أسرته والتضحية بأهله، وهتك ستره وفضح نفسه، وتعرية ذاته وإذلال نفسه، وكل ذلك قربانا للحصول على المال.

وكما أورد شوقي (رحمه الله):
المال حلل كل غير محلل
حتى زواج الشيب بالأبكار
سحر القلوب فرب أم قلبها
من سحره حجر من الأحجار
دفعت بنيتها لأشأم مضجع
ورمت بها في غربة وإسار
ما زوجت تلك الفتاة وإنما
بيع الصبا والحسن بالدينار
وفي زمننا الذي تغير فيه كثير من القيم، وانصهرت فيه كثير من الثوابت والمسلمات، وتقاطعت فيه المفاهيم؛ فلا يدري العاقل أهو على حق أم على باطل، وذاك لأن الكثرة كما قيل: «غلابة»، والكثرة تجعل الباطل حقا والحق باطلا، ومع السعي الحثيث نحو المال والشهرة، ونحو بريق الأضواء ونحو البحث عن الذات الناقصة التي لم يجد صاحبها ما يكملها، فسعى إلى سد ثغرة النقص بالمال، ولا أقصد بالمال ما يسد حاجته ويستر حياته، وإنما المال الذي يجعله من علية القوم، وممن تفرش له الأبسطة الحمراء والزرقاء ليسير عليها، وكل ذلك جعل غالب الناس يبحثون عن كيفية الكسب، فوجد غالبهم أن أسهل طريقة هي «بيع الجسد» و»الدعارة غير المباشرة»، إذ تعمد بعض الفتيات إلى استعراض مفاتنها كي تنال المال خلال جلب متابعين يحومون حول جسدها كالذباب الذي يطن فوق الجيف، جعل بعضهن تمتهن «الدعارة الالكترونية» كوسيلة من وسائل جلب الذباب - أقصد الزبائن - الذين لا يلتفتون إلى المحتوى، وإنما لمن يعرض المحتوى وفق هزات ولذات ورقصات من أجساد شبه عارية، كثرة النظر إليها تجعلك تعاف أكل اللحوم وتصبح بقوليا من الدرجة الأولى.

أجساد تعفنت بكثرة تعرضها للعيون، وبكثرة بقاء الذباب عليها فترات طويلة، رغم كثرة التحنيط لها لمنع العفونة، أقصد كثرة مساحيق الجمال التي تخفي تعفنها.

فبعضهن تقوم بتسويق منتج ما، ولكن ليس بعرض مكونات المنتج أو فاعليته، بل بتصويره بجانب صدرها المكشوف، أو مؤخرتها المزيفة بالحشوات، أو بجانب فخذيها المكشوفتين بتنورة قصيرة، وكل ذلك لترويج المنتج بحيلة الجذب والإغراء.

والمشاهد في الجانب المقابل لا يعرف ما هو المنتج بقدر معرفته الدقيقة بجسد المروجة له، ومن هنا تزاحمت كثير من الفتيات على عيادات التجميل «ورش السمكرة»، للخروج بجسد يكون جاذبا للزبائن على حساب الصحة والقيم والمبادئ والهوية.

قد يظن البعض - جزافا - أن هذه موجة عابرة وستتلاشى وتذهب أدراج الرياح، ولكن لا يعلمون ـ وإن تلاشت مع الزمن ـ فإن غراسها سيبقى في ذهن الأجيال، وسيجعل ثلة من الجيل فريسة لحيلة الاتجار بالجسد كأسرع وسيلة لجلب المال والاستمتاع بالثراء، وإلا لما كثرت التطبيقات التي تمنح روادها البث المباشر وعرض الأجساد، والسعي إلى جلب أكبر عدد من المتابعين والانسلاخ من الأخلاق، وكل ذلك من أجل الشهرة والمال.

والسؤال: ماذا ستقدم لك الشهرة والمال، إن كنت تأكل وتشرب وتستمتع بالسفر وغيرها، وحينما تخلد إلى فراشك تنساب دموعك ويضيق عليك الكون بما رحب، ويؤرقك السهر وتتكالب عليك الهموم، فلا يهدأ بالك إلا بقرص منوم، ومع الأيام لا تكفيك عشرة أقراص لتنام؟!
تذكر: بان القليل من المال مع الكثير من راحة البال يجعلك تشعر بقيمة الحياة وبالنعيم الذي تتمرغ فيه ليل نهار.