راكان فهد الحربي

الطفرة التشريعية بالمملكة: خطوات متسارعة

الأربعاء - 29 نوفمبر 2023

Wed - 29 Nov 2023


التشريع في المملكة.. حراك تشريعي أم طفرة تشريعية؟
يمكن تحديد معنى الحراك التشريعي بالسعي نحو إصدار القوانين بما يكفل تغطية النقص في القوانين، وهو نشاط قد يستمر لمدة طويلة؛ بحيث يتكثف أو يتباطأ وفق ظروف الدولة وقدرة سلطتها التشريعية في الإعداد والإصدار لمشاريع القوانين بمرونة ودقة.

أما الطفرة التشريعية فهي شيء آخر بنظرنا؛ هي القدرة على الدخول إلى عصر آخر من التشريع يسمح بتغيير هيكلية نظام المعاملات والأعمال.

أي أن الطفرة التشريعية مرتبطة باعتماد منهج التشريع.

حيث إن اعتماد منهج التشريع يؤدي إلى اختيار نظم قانونية تنتمي إلى مدارس قانونية تاريخية لها فلسفتها التشريعية، ورؤيتها المختلفة لفكرة العدالة؛ الأمر الذي يمثل في الواقع طفرة تغيير حقيقية.

ومن المظاهر المستقبلية لهذه الطفرة؛ حدوث تغيير ليس فقط في آلية عمل القطاعات العدلية والمهن القانونية ومنظومة العمل الحكومية والمشاريع التشريعية، بل أيضا حدوث تغيير في طبيعة الموارد البشرية المطلوبة للعمل في هذه المجالات والأنشطة.

آثار الطفرة التشريعية بالمملكة
أولا: الانتقال من القاعدة الشاملة إلى النص التفصيلي:
في الحقيقة، المشكلة في تطبيق القواعد الفقهية الشاملة ظهرت بالواقع بسبب ضعف إمكانيات بعض أفراد العدالة التقديرية التطبيقية، وليس بسبب جودة القاعدة وعدالتها.

فالقواعد الشاملة لأكثر من معنى يمكن أن يحكم بها أفراد العدالة بحكمين متناقضين أو متعاكسين تماما إذا أساء التقدير؛ أحدهما لمصلحة المدعي والآخر لمصلحة المدعى عليه.

فالمتخاصمان يكون لكل منهما مطالب محقة، وكلاهما سيتضرر من الحكم عليه بإلزامه بفعل أو امتناع؛ لذا يكون رفع الضرر عنه ضمن معنى العدالة التي ترد في القواعد الشاملة.

وهنا يظهر حجم المسؤولية الملقاة على عاتق القاضي قبل عصر التشريعات القضائية، والمستوى الرفيع من جودة التفسير والتطبيق والفراسة المطلوبة منه.

لكن المملكة اختارت دخول عصر التشريع، حيث سيكون أمام القاضي نص صريح تفصيلي لكل واقعة، وليس عليه سوى التأكد من انطباق النص على الواقعة التي يحكم بها، وهكذا، فلن يكون هناك أي مجال لتفسير القاعدة الغامضة بتفسيرات متناقضة أو متعاكسة أحيانا، وتنخفض احتمالات سوء التقدير القضائي.

ثانيا: الانتقال من التقدير الواسع إلى القياس المحدد:
فالقاضي في عصر التشريع سيكون ملزما بتطبيق القواعد التشريعية وعليه العمل ضمن نطاق هيكل نظامي ملزم؛ فعلى الرغم من أن القاضي مستقل ولا يجوز التأثير على قراره، إلا أن هذا القرار محكوم بنظام عام يضبط تقدير القاضي؛ لذا ينتقل القاضي في عصر التشريع من منهج الاستقراء التقديري للوقائع بغرض استنباط الحكم المناسب، إلى منهج قياس الوقائع على الوصف المذكور بالنص الملزم الصريح؛ وهو ما يؤدي إلى إمكانية توقع الحكم ومنطوقه وتسبيبه وبنوده.

ثالثا: الانتقال من اختيار تطبيق القاعدة المناسبة إلى فرض تطبيق الإطار النظامي:
فالقاضي في ظل غياب بعض التشريعات، كان يستطيع اختيار القواعد التي يراها تنطبق على موضوع النزاع، فيكون القاضي قادرا على تحديد نطاق تطبيق القاعدة وفق رؤيته للوقائع.

بينما القاضي في عصر التشريع يكون ملزما بقواعد خاصة بنطاق التطبيق، فيكون من واجبه التأكد من معايير الانطباق فقط؛ كأن يكون النظام مطبقا على صعيد جغرافي محدد وفي إطار طبيعة من التعاملات التجارية مثلا، فهكذا يكون على القاضي تطبيق النظام دون البحث عن قواعد أخرى حتى وإن رآها أكثر انطباقا على الوقائع.

الطفرة التشريعية
بعد دخول عصر التشريع، يجب التفريق في محاور التشريع بين التقنين الذي يمثل القواعد العامة في المعاملات والأفعال، وبين القانون المتخصص الذي يقوم بتنظيم الحالات المستقلة والاستثنائية؛ بحيث يتم تطبيق القانون المتخصص أولا، ثم الرجوع إلى التقنين العام إذا لم يجد القاضي نصا قانونيا متخصصا.

ومن أهم الخطوات القانونية المرتبطة بالطفرة التشريعية والتي ينبغي مراعاتها:
أولا: الانطلاق من عدالة الشريعة الإسلامية، وتفسير القانون بمنهج شرعي، يهدف القانون إلى تحقيق العدل كما يراه من وضعه، وفق قواعده التفصيلية الملزمة المنصوص عليها في جمل واضحة ومعان صريحة وقواعد ملزمة بغير نقاش أو تفسير أو تأويل، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور قواعد قانونية خشبية تمثل العدل لكنها غير عادلة؛ أما القواعد الفقهية الشرعية التقديرية فهي تهدف إلى تحقيق العدالة كما هي بمفهومها الفطري الواسع؛
لذا، يجب الاعتماد على عدالة الشريعة الإسلامية كأساس قانوني وتفسيري، فالشريعة التي تعتبر منهجا تشريعيا كاملا يمثل العدالة المطلقة.

وطالما أن المملكة قد اختارت منهج التشريع، فيجب ألا تنقطع الصلة بين النظام والشريعة، حيث يكون على القاضي تفسير النظام بما يتناسب مع الشريعة من جهة، واستكمال ثغرات النظام - التي لا بد أن تظهر كونه عملا إنسانيا - من خلال القواعد الفقهية الشرعية من جهة أخرى.

بناء عليه، يجب التأكيد على أن الشريعة الإسلامية هي النظام العام الذي لا تجوز مخالفته حتى من القانون، وإذا صدر القانون متعارضا بالشكل أو المضمون مع الشريعة؛ فيكون باطلا وكأن لم يكن حتى يتم تعديله.

ثانيا: إدراك التقنين كقواعد عامة تصلح لجميع الحالات مهما اختلف المكان والزمان؛ مثل قواعد التعويض عن الأضرار، وقواعد الوكالة والشراكة وغيرها من المعاملات التي يجريها الناس بغض النظر عن طبيعة أعمالهم. وبعد أن اختارت المملكة منهج التشريع، فقد بدأت بإصدار التقنين المدني عبر نظام المعاملات المدنية، وتقنين الأدلة عبر نظام الإثبات.

ثالثا: إدراك القانون (النظام) على شكل قواعد خاصة استثنائية بمعايير وشروط منضبطة وواضحة لطبيعة محددة من الوقائع؛ مثل القواعد التي تنطبق على التجار بعينهم بعد توضيح كيفية اكتساب صفة التاجر وآثارها القانونية، ثم أثر اكتساب هذه الصفة على طبيعة معاملاته، وأحكامها الاستثنائية التفصيلية.

وبعد أن اختارت المملكة منهج التشريع، فقد أصدرت المملكة العديد من الأنظمة التفصيلية التي نظمت مثلا حقوق الملكية الفكرية والعقارية وغيرها.

رابعا: تنظيم عمل القضاء؛ وهي من أكثر المهام التنظيمية الجوهرية بعد الدخول إلى عصر التشريع، حيث يجب أن يبدأ التنظيم من كيفية الإعداد للقضاة، وتدريبهم، وتحديد آلية ومهام الفريق الإداري والبحثي الداعم لعمل القضاة وواجباتهم بما لا ينقطع عن الهوية والإرث القضائي المستقر للعدالة في وجدان المجتمع.



Rakanharbi@