بندر الزهراني

الرياضيات محور نمو العقل وتطوره

الأحد - 26 نوفمبر 2023

Sun - 26 Nov 2023


تخيلوا معي أنه بإمكاننا استحضار أكثم بن صيفي وهرم بن سنان وزهير بن أبي سلمى إلى يومنا هذا، وأننا أتينا لهم بالسيارة والطيارة والكمبيوتر، وقلنا لهم: ما تقولون في هذه المخترعات؟ فهذه تسير، وتلك تطير، وهذا الجهاز يجمع العالم كله بين أيديكم، فما أنتم فاعلون بها؟! أتعرضون عنها لأنكم لا تعرفونها، أم تستخدمونها وتقومون على تطويرها والبحث عن جديد لها؟ وفي المقابل، لو عدنا بـسام ألتمان وستيف جوبز وتوماس أديسون إلى الوراء عشرة قرون من الزمن، وقلنا لهم ما عساكم فاعلون؟!
التاريخ والواقع والتجارب العلمية كلها تؤكد أن العقل البشري ينمو ويتطور ويحاكي عصره، وهذه حقيقة لا جدال فيها، فمخترعات الإنسان اليوم لم تأت بمعزل عن مجهودات الإنسان في الماضي، لكن الإنسان لا يولد عالما هكذا بمجرد ولادته في عصر ما، كعصر التكنولوجيا مثلا، فالله عز وجل يقول: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) ولذلك فإن الإنسان يبقى مطالبا بتنمية مهاراته الذهنية وقدراته العقلية طالما امتلك السمع والبصر والعقل، على الأقل حتى يساير إنسان عصره الذي يولد فيه، ويشكر الله على نعمه وآلائه.

أحيانا أشرح لطلابي فلسفة ديكارت أو مسائل جاوس وتلميذه ريمان فلا يستطيعون فهمها، وربما يدور في أذهانهم تساؤلات كثيرة، كأن يقولوا لأنفسهم: كيف لنا ألا نفهم مسائل علمية نوقشت قبل أربعة قرون! وكيف لهؤلاء العباقرة في عصور ليست كعصرنا اليوم يتوصلون لمثل هذه النتائج المستعصي علينا فهمها؟ فضلا عن محاكاتها واستكشاف المزيد منها! ومثل هذه التساؤلات المنطقية ليست محصورة على أذهان الطلاب وحدهم، بل تتعداها إلى أذهان الأساتذة، وأنا واحد منهم.

وبما أنني كذلك، دعوني أطرح التساؤل التالي: كيف لنا اليوم أن ننمي قدرات أبنائنا العقلية والفكرية، وبالتالي تحقيق المزيد من الاكتشافات العلمية وتطوير التفكير النقدي واتخاذ القرارات الذكية؟ الجواب على هكذا تساؤل سيقودني وإياكم للحديث عن نظم وأساليب التعليم العام من نواح كثيرة، أولها وأهمها طرق تعليمنا لمواد كالرياضيات والإحصاء والمنطق والفلسفة، وموضوعات هذه المواد مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا، ولا يمكن فصلها أو الاستغناء ببعضها عن الآخر.

عندما وصل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون إلى البيت الأبيض كانت أمريكا في تعليم الرياضيات والعلوم تقبع في مراكز متأخرة مقارنة بدول كالصين واليابان وسنغافورة، فخصصت الحكومة الفيدرالية مبالغ مالية كبيرة لتعليم الرياضيات والعلوم في المدارس الابتدائية، واهتمت بالمدارس التي تعتمد تطبيق نظام (STEM) ورعت الكثير من برامج ومناهج تعليم الرياضيات، إلا أن الآخرين كما الأمريكيين يعملون على تطوير أنفسهم وتحديث مناهجهم، والمنافسة في هذا الإطار قائمة إلى اليوم، وما هذا إلا لإدراك الدول أهمية تعليم الرياضيات.

في اعتقادي أن الطالب العادي الذي يحظى بتعليم جيد في الرياضيات يسهل علينا تطويره والاعتماد عليه في سوق العمل وأسباب الحياة، عكس الطالب الذكي الذي إما أن يكون كفأر التجارب للمناهج المستنسخة والأنظمة المستحدثة، وإما أن تنطفئ ذهنيته المتوقدة ما بين إجازة مؤقتة أو تعليق دراسة طارئ، ولذلك أرى أن الوقت قد حان لتخصيص مدارس أو مناهج تهتم بتعليم الرياضيات والعلوم بشكل منفرد مع الأخذ بقليل أو كثير من المعارف والعلوم الإنسانية الأخرى.

العقل العربي من أجود العقول وأكثرها خصوبة ونضجا، وأكثرها تطورا ونموا، والعرب من أعقل الأمم كما يقول ابن المقفع في وصفه لهم، ولو ركب أكثم بن صيفي سيارة أو طيارة كما نفعل نحن اليوم لقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وبدأ يكيف حياته مع وسائل العصر الحديثة، ويبحث هنا وهناك عن سبل أخرى لتحسين جودة الحياة، ولكيلا يبقى مستهلكا غير واع أو عالة على الآخرين، ولربما ظهر لنا زهير بن أبي سلمى في بث مباشر على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي ليقول: عموا صباحا غير هرم بن سنان، وخيركم استثنيت يا من تضيعون الأوقات في استهلاك ما شاع وانتشر من التقنيات!



drbmaz@