بسمة السيوفي

السعادة في التعليم

الثلاثاء - 21 نوفمبر 2023

Tue - 21 Nov 2023

يا ترى من منا لا يزال يحمل روح الطفولة معه إلى الآن.. ذاك الحماس الطاهر لفعل الأشياء.. حين كانت أحلامنا تسير حيث نسير، ترشدها التجارب الغضة في المدارس، حيث الغربة الأولى التي عشناها كأطفال، وحيث تلخص الذكريات الماضي الجميل الذي عشناه بكل تجاربه الممتعة، لنقارنه تلقائيا بالواقع الحالي الذي يقول «إن التعليم في وقتنا الحاضر هو المصير المتعثر الذي يجب أن نرضى به دون أن نسعى لتغييره لنحو الأفضل».

تقف مدرستي المتوسطة شاهدة على زمن مختزل يستحضر السعادة، تجسد بحضورها الغائب في ذاكرتي المعنى العلمي والثقافي والقيمي، كنت قد ذهبت مرة إلى موقعها خلف المحكمة الكبرى في جدة ناحية وسط البلد، لكنها لم تعد هناك.. الأرض تنوح شوقا، لا يهم.. مازالت حاضرة في عمري بتفاصيل المبنى ذي الأدوار الثلاثة والفصول الواسعة، ساحة الاصطفاف، الزي المدرسي كأداة للتوحد، الإطلالة على الممرات ومنها على الساحة، العلم الأخضر يرفرف في الزاوية، نخل وشجر يصفق بأوراقه مستقبلا ومودعا، حارس يقظ حنون ينادي عل كل الداخلات والخارجات من البنات بالدكتورة والمهندسة والمعالي، معلماتنا ملهمات ومتحمسات للقائنا كل صباح، أبلة فاطمة معلمة القرآن، وأبلة نادية معلمة العلوم والرياضيات.. هما أكثر من أتذكر، كانتا المتحدثات الرسميات باسم فيثاغورث وأرخميدس، وابن الهيثم ونيوتن، لم أكن أدرك وقتها أنهن كن يربين في دواخلنا التفاصيل التي يجب أن ننظر بها إلى الحياة لنستعد للقادم، لا زلت أتساءل كيف نجحن في جعل المدرسة فرحا يتجدد لنا كل صباح؟

أجواء المدرسة كانت مليئة بعبق الابتكار بالرغم من محدودية الموارد والإمكانات وقتها، إلا أن هناك متعة وحماسا واهتماما طاغيا.. الأشخاص، والعملية التعليمية، والأماكن، والمبادئ.. تجعلك تتساءل الآن عن مدى احتياج العالم للمدارس السعيدة ولتعليم ممتع وسعيد.. أعتقد أن مقياس نجاح المعلم في خلق الدافعية والاعتماد على الذات لدى الطالب منذ البدايات.. هو أكبر حجر أساس يضعه على طريق الازدهار في التعلم داخل بيئة مدرسية تحفها المكاره.. وتكبلها المسؤوليات.

هناك القلق من الجديد، التركيز وضرورة التحصيل، الصداقات الجميلة، وربما التنمر والتسلط، الانضباط والالتزام، علاقات تتشكل بين المعلمين والطلاب، اختبارات وأنشطة، مقاييس، إنجازات وتصانيف مرهقة.. فهل لا بد من التنازل عن جودة الإعداد الأكاديمي مقابل الاستمتاع بالتعليم في ظل هذه المعطيات؟

السعادة المستدامة في المدرسة أو الجامعة قضية غامضة ومعقدة، والسعادة في حد ذاتها من القيم المطلقة في الفلسفة.. ومع ذلك ينبغي أن تكون السعادة في التعليم للتلاميذ هدفا واضحا لكل مدرسة.

وقد أنتج علم النفس الإيجابي الكثير من المقاييس والمؤشرات ومفادها أن نبتعد عن السلبيات والمشكلات ما أمكن في البيئة التعليمية وأن نركز على الممارسات والفرص بشكل إيجابي، فالسعادة هدف ووسيلة للتعليم تتطلب أن تتم العملية التعليمية في جو من المتعة والبهجة من خلال محددات أساسية تبدأ بأن يعتز المعلم بمهنته (وفق ما يقتضيه الاعتزاز والفخر بالمهنة)، وأن تتوفر بيئة تعليمية داعمة للتفكير النقدي ومحفزة للإبداع.

كما تتطلب أن تتم العملية التعليمية في جو من التفاعل الاجتماعي الإيجابي، وأن تستخدم أساليب تعليمية متنوعة في بيئة تدفع الطلاب إلى الاعتماد على أنفسهم في تحصيل المعرفة.

هناك معايير رئيسة ومؤشرات معتمدة عبر العالم لقياس السعادة وعدم السعادة والنجاح الأكاديمي وغيرها من النتائج.. تركز على تعليم الطالب كيفية المشاركة في مجموعة مختلفة من الأنشطة والتمارين، ويتضمن ذلك تذكر الأمور الإيجابية التي حدثت في اليوم الدراسي، وكتابة خطابات الامتنان، وتعلم الاستجابة البناءة، وتحديد نقاط القوة الشخصية وتنميتها، بالإضافة إلى تعزيز الوعي والتعاطف والتعامل مع العواطف، وصنع القرارات، ليأتي بعدها تحدي تحقيق السعادة في التعليم عبر إحراز التوازن بين المتطلبات الأكاديمية والسعادة الشخصية للطلاب.

الغاية من مناقشة موضوع السعادة في التعليم هو تسليط الضوء على ما يحدث في بعض مدارسنا اليوم.. خاصة أن هناك استراتيجيات واضحة لأهداف رؤية التعليم في المملكة العربية السعودية، أهداف محددة لرؤية التدريس الأساسي، والجامعي، والفني، واللغات.. خطط زمنية ودراسات جدوى، استراتيجيات تركز على التعلم الذاتي، الاستثنائية والابتعاد عن التقليد الأعمى والروتين المعتاد، خارطة الطريق موجودة.. فلماذا لا نسعى لتحقيق ذلك بكل ما أوتينا من عزم وإصرار؟
التحدث عن السعادة في التعليم ما هو إلا دق لجرس الإنذار في عصر يشهد الانقسامات والحروب والتشرذم السياسي، عصر رقمي عزز التعلم المنفرد في زمن يحتمل العزلة بسبب الكوارث؛ لذا فالتركيز الأكبر لا بد أن يكون على تعزيز خبرات التدريس والتعلم الممتعة بدلا من الظروف التنافسية التي نغرسها في الطلاب فتسبب الإجهاد الدراسي وتعرقل النمو الأكاديمي والعاطفي والاجتماعي.

لا ينبغي لمخرجات التعليم في المدارس والجامعات مع ميزانياتها الطائلة أن تأتي بنتائج متعثرة؛ لأنه بالتأكيد هناك تكلفة صافية تدفعها الدولة لعلاج السلبية في التعليم، لا يمكن التقدم دون صناعة جيل يمارس عمله بحب ودقة واهتمام.. هي منظومة متكاملة تحتاج إلى تكاتف حتى تصبح أجيالنا القادمة سادة للزمن الذي يمضي.

smileofswords@