عبدالله سعود العريفي

تراب الوطن

الثلاثاء - 14 نوفمبر 2023

Tue - 14 Nov 2023

رجل عركته السنون وزادته تجارب الحياة خبرات متراكمة، سافر صوب بلاد بعيدة في رحلة قد يمتد وقتها وقد يطول زمنها؛ فرحلة العودة لم تُحدد ووقت الإياب غير معروف، وزمن الرجوع غير معلوم.

أخذ معه في رحلته الطويلة ملء كفيه من تراب وطنه؛ فقد اعتاد في كل سفرة من سفراته، وتعود في كل رحلة من رحلاته أن يحمل معه شيئا من ذلك التراب، وهو معتز ومفتخر به، وقد دار بينه وبين مجموعة ممن رأوه يحمل ذلك التراب حديث عن السر وراء حمله، وعن ذلك الحب الكبير والإخلاص العظيم والشعور الفريد المرتبط بالوطن؛ فأجابهم: هذا دوائي؛ فالبعيد عن أرض وطنه تسوء حاله بفراق وطنه والابتعاد عنه، ولا يدرك ذلك إلا من غاب عنه وأضناه حنين يكسر عظام الصدر وجعا، وفي قلب كل إنسان صوت من أرض وطنه، ونداء من مكانه وهتاف من محله، يصبحه ويمسيه بأنه لا يتواجد في مكانه ولا يقيم في محله، وبأنه سيرجع إليه قريبا وسيعود إليه خلال زمن ليس ببعيد، ومن ثم ترهقه وتثقل عليه أحلام متنوعة وتتنازعه مشاعر متعددة، يصاحبها مزيج من الاكتئاب والشرود الذهني وعدم صفو المزاج.

ولا عجب أن يحب الإنسان وطنه ويتعلق به تعلقا شديدا، ولا غرو أن يشعر بشوق وتلهف وحنين ورغبة في الإياب إليه عند الابتعاد، واشتياق إلى العودة إليه عند الغياب، فهو يجد دوما لهواء وطنه ومائه وحره وقره، مذاقا مختلفا وطعما مميزا، فيتواجد في غربته ببدنه إلا أنه مستمر التنقل بفكره ودائم الانتقال بعقله إلى ديار الآباء ومواطئ أقدامهم، ومنازل الأجداد ومحاط رحالهم، والرحيل بقلبه إلى مهد الطفولة ومرابع الصبا ومراتع الشباب، ليسترجع من كل شبر منها ذكريات يرويها وقصصا يحكيها مع رفاق الطفولة وأصدقاء البراءة، وتأخذه روائع الذكريات التي تأتي دون استئذان وتأبى الرحيل، وتطرق أبواب القلب إلى نعيم القرب من الأهل والأصحاب والأحباب.

لا شيء يطفئ لوعة الشوق إلا الوصال، ومن ألوان المداواة ومن أنواع العلاج، لقاء المحب محبوبه أو حتى أثرا من آثاره، ولا عجب أن يكون تراب الوطن ترياقا للسقيم وبلسما للعليل، وعلاجا للمريض ودواء للكليل، فالعرب كانوا في الأزمان الماضية عند سفرهم خارج أوطانهم يأخذون معهم شيئا مما نعم من أديم أرض أوطانهم، فإذا انتقلوا وارتحلوا وطال اغترابهم ودام بعدهم كانوا يُعفرون به وجوههم ويستنشقونه، فالبرء قد يكون في شم المحبوب، والمحب يعرف رائحة محبوبه ويشمها من بعيد، وقلبه متلهف إلى الوقت الذي سيتمكن فيه من رؤية محبوبه وإطفاء نار الانتظار والشوق داخله.

إن من أصعب الأمور التي تمر بالإنسان، هي أن يكون بعيدا عن وطنه، وطبع الإنسان السوي يقتضي أن يحب الإنسان وطنه الذي ولد فيه وفيه ذكريات لا تُنسى، فهو ذاكرة الإنسان وفيه الآباء والأجداد وفيه الأهل والأصحاب، وفيه الأقارب والأحباب وفيه الأخلاء والأصفياء، وإن ابتعد الإنسان عن وطنه واغترب يبقى الاشتياق إلى نسمات هوائه وشمسه وجباله وقفاره وذكريات الطفولة، وفرح الصغار ومحبة الكبار وروائح الأزهار والأشجار وتغريد العصافير، ويستمر التلهف مستقرا في وجدانه، وفي الغربة يشتد الحنين ويتضاعف التلهف، ويزداد الاشتياق إلى تراب الوطن.