الدين أفيون للشعوب.. نظرة جديدة!
الخميس - 09 نوفمبر 2023
Thu - 09 Nov 2023
الدين أفيون الشعوب، مقولة طرحها المفكر الألماني كارل ماركس (1818-1881) في كتابه نقد فلسفة الحق عند هيجل، ومنذ أن طرح ماركس هذه المقولة وحتى اليوم دار تجاهها جدل واسع، ما بين اتجاه معارض واتجاه آخر مؤيد لهذه المقولة.
وأما المعارضون للمقولة، فيجادلون بأنها انطلقت أساسا من فلسفة وفكر كارل ماركس الشيوعي الإلحادي، وأن ماركس يسعى لهدم الأديان.
وعلى النقيض من المعارضين، يذكر السياسي اليساري الكويتي أحمد الديين في لقاء سابق له، بأن مقولة ماركس تم اجتزاؤها من سياقها وتحريفها عن مقصدها.
فالأفيون - حسب الديين - كان ينظر إليه بشكل إيجابي ويستخدم كعلاج؛ وأن نص حديث ماركس هو كالآتي «إن الدين هو زفرة المحروم في عالم بلا قلب، إنه أفيون الشعوب» بالتالي بناء على هذا الحديث فإن ماركس بالأصل قدم الدين على أنه الملاذ الروحي للأفراد؛ وليس كما يذكر معارضي مقولة ماركس.
على أية حال، وبغض النظر عن المؤيدين والمعارضين. لو أخذنا هذه المقولة «الدين أفيون الشعوب» بتجرد تام من نظرة مؤيديها ومعارضيها، وفرغناها مما يدور حولها من الجدل الفكري ومن الأفكار «الإلحادية الماركسية» أيضا، ونظرنا لها نظرة أخرى من زاوية جديدة محايدة؛ بعيدة كل البعد عن آراء الاتجاهين السابقين.
هل فعلا يمكننا اعتبار الدين أفيونا للشعوب؟ وبعبارة أخرى هل الدين يؤثر ويغيب عقول الأفراد؟ ويجعلهم ينقادون دون إبداء أي اعتراض نتيجة التأثير الديني القابع عليهم؟! وأعني بالتأثير هنا، التأثير السلبي وليس الإيجابي.
ولنجيب عن تلك التساؤلات، لابد أن نبين في بادئ الأمر ما هو التأثير السلبي والإيجابي للدين: أما التأثير الإيجابي للدين فهو في جوهره حب الله والتحلي بالقيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية والإنسانية.
ولفت نظري قول لمعالي الدكتور غازي القصيبي في أحد لقاءاته عن جوهر الدين، فيقول: «.. جوهر الدين هو أن تؤمن بالله، وتعمل عملا صالحا بالدنيا، وتعامل الغريب كما تعامل أخيك.
فجوهر الأديان قائم على العمل الصالح والإيمان وإذا أخذت بهذا المعنى سيكون للدين قوة دافعة لنمو الشعوب وتطورها...».
وإضافة لذلك، يذكر الدكتور تركي الحمد في كتابه السياسة بين الحلال والحرام -بعد أن أورد العديد من الآيات والأحاديث والتعاملات النبوية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حول جوهر الدين، فيقول: «..إن الأخلاق وعلاقة الناس بالناس؛ تشكل جوهر الدين وهدفه الاجتماعي الرئيس، إذ إن دعوة الدين أخلاقية لإصلاح النفس التي إذا صلحت صلح كل شيء آخر وإذا فسدت فسد كل شيء آخر..».
وأخيرا، يذكر معالي الدكتور محمد العيسى حول الإسلام، بأنه: «روح جامعة، يشمل بخيره الإنسانية جمعاء، ونبيه الكريم عليه الصلاة والسلام القائل: خير الناس أنفعهم للناس. لذا سما التشريع الإسلامي بإنسانيته التي لا تزدوج معاييرها ولا تتبدل مبادئها، فأحب الخير للجميع، وألف قلوبهم».
ولا أحد يشك خلاف ذلك مطلقا، حول جوهر الإسلام الداعي إلى السلام، والمودة، والتسامح، والعطف، واللين، وترك التنطع والغلو.. والعديد من القيم والمبادئ السامية النابعة من جوهر الإسلام الوسطي المعتدل.
هذا عن التأثير الإيجابي.
وماذا عن التأثير السلبي للدين؟ يتجلى التأثير السلبي للدين عندما تفسر النصوص الدينية حسب أهواء دعاتها، فيتم زرع التشدد، والغلو، والتنطع، والإرجاف؛ في عقول المتلقين.
هنا تتجلى سلبية الدين على الأفراد.
وليست «داعش» و»القاعدة» عنا ببعيد، فقد استغل قادة تلك الجماعات الإرهابية الشباب، ومحدودي العلم والفكر، وضربوا على وتر العاطفة لديهم لينفذوا أعمالا إرهابية في وطنهم؛ موظفين بذلك قضايا وأزمات خارجية ليمرروا أجندتهم، والعجيب أن تأثيرهم طال حتى بعض المتعلمين فمن أراد تفجير مصفاة جدة «فواز العبسي» هو مهندس بأرامكو!
عندما نقول بأن للدين تأثيرا سلبيا، هذا لا يقدح في صميم الدين الإيجابي المعتدل. بل هذا وصف لهذه الظاهرة التي انبثق من تأثيرها متطرفون، وإرهابيون، يرون في تفجير وطنهم ودولتهم عملا يؤجرون به! ويرون في قتل رجال الأمن ثوابا لهم! وفي قتل آبائهم وإخوانهم وتفجير المجمعات السكنية عملا صالحا يدخلهم الجنة! هذه الأفكار الهدامة التي تسربت نحو أدمغتهم، لم تكن لتتمكن منهم لولا أن «دعاة جهنم» قاموا بلي أعناق النصوص الدينية ويسيرونها حسب أهوائهم ومعتقداتهم التي تسعى لهدم كيان هذا الوطن الأبي الخالد؛ تحقيقا لأجنداتهم المتطرفة.
في مقال سابق لمستشار خادم الحرمين الشريفين الأمير خالد الفيصل بعنوان «من غيب البسمة» تناول فيه سموه حال إنسان عسير وكيف كانت البسمة والبهجة ترتسم على محياه، وكيف عاشت «الأسرة العسيرية» في تناغم ووئام، ثم أصبحت تلك البسمة وجوما وكآبة وحزنا بفعل المتطرفين الذين أثروا على عقول الشباب وزرعوا بهم أفكارا متطرفة تدفعهم لتكفير آبائهم، وتحريم كل شيء، وأن أقرب طريق إلى الجنة هو الانتحار وقتل رجال الأمن والمدنيين! وأقتبس من ذلك المقال: «..من ألغى السعادة ونشر الأحزان؟ من أقنع الأبناء أن يكفروا آباءهم والبنات أن يكفرن أمهاتهن؟ من علم طفل دار الأيتام أن وطنه الإسلام – وليس السعودية – وأن مهنته المستقبلية هي الجهاد وأن مشاهدة التلفزيون السعودي حرام لأن فيه موسيقى؟ من حول ساحات المدارس والجامعات إلى معسكرات حركية وجهادية؟! من حول المخيمات الصيفية إلى معسكرات تدريب على الأسلحة؟ من أقنع الشباب السعودي بأن أقرب طريق للجنة هو الانتحار...».
نعم، إن الدين أفيون الشعوب، فهو - أي الدين - أكبر وأعظم مؤثر على عقول ووجدان الأفراد، ولكن هل لنا القدرة على تحويل «التأثير السلبي للدين» ليكون تأثيرا إيجابيا؟ نعم، نستطيع ذلك من خلال نشر الخطاب الديني الوسطي المعتدل، وتنشئة الشباب في المدراس على التعامل الحكيم والتربوي للنبي صلى الله عليه وسلم وترسيخ تلك القيم الجليلة التي تحلى بها النبي والتي دعا لها الإسلام كالرحمة، والعطف، واللين، ونبذ التطرف والتشدد والتنطع بالدين الإسلامي؛ وجعله وسطيا معتدلا كما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا...). من هنا، ننطلق نحو تأسيس جيل واع معتدل، ينبذ ويرفض كل الأفكار المتطرفة الهدامة التي تقدح بعلمائه وولاة أمره ووطنه؛ وتجعلهم يتمسكون بسماحة الدين الإسلامي ووسطيته السمحة، ويذودون عن وطنهم في كل محفل.
ما دمنا في هذا الصدد، ينبغي لنا أن نشيد بالدور البارز الهام الذي حققه كل من: معالي الدكتور عبداللطيف آل الشيخ -وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد -، ومعالي الدكتور محمد العيسى -الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين - في تأكيدهما وترسيخهما لمنهج الإسلام الوسطي المعتدل، ونبذهما للمنهج المتطرف التكفيري الذي ينافي سماحة وقيم الإسلام الجليلة، وسعيهم الدؤوب لدحر المتطرفين ونقض حججهم الواهية استنادا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الخالية من الحزبية والتطرف.
يحتل الدين مكانة رفيعة في نفوس جميع الأفراد دون استثناء، ولهذا يسعى المتطرفون لاستغلال هذه المكانة السامية للدين الإسلامي لدى الأفراد لتمرير أفكارهم المتطرفة المنحرفة تحت غطاء «نصرة الدين» و»رفع راية الإسلام» وما هم إلا ثلة من الخوارج التكفيريين لا يفقهون الإسلام ولا يعرفون معنى الإسلام، (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم) كما أخبر عنهم المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن أفعال هؤلاء الشرذمة نما التأثير السلبي للدين الإسلامي، ورسخوا الفكرة النمطية السلبية نحو الدين الإسلامي والخوف من الإسلام «الإسلاموفوبيا».
لذا، لابد لنا أن نعمل ونسهم في نشر الخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل، ونشر قيم الإسلام الحميدة والجليلة (السماحة، العطف، اللين..)، وأن نقف مع قيادتنا ورجالات دولتنا لتأكيد ذلك الخطاب الإسلامي المعتدل والنهج القويم ورفض التطرف بكافة صورة وأشكاله وتحت أية ذريعة أو تبرير كان.
وأختم بقول الحازم المظفر الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله -: «إنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالا ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك فنحن إن شاء الله حماة الدين وقد شرفنا الله بخدمة الإسلام والمسلمين ونسأله سبحانه السداد والتوفيق».
andawsari@