سالم الكتبي

الأزمة «الدونكيشوتية» وسياسة الواقع..!

الأربعاء - 08 نوفمبر 2023

Wed - 08 Nov 2023


تابعت منذ اندلاع الصراع الدائر في غزة مئات المقالات ووجهات النظر المنشورة في مختلف وسائل الإعلام العربية بجانب «السوشيال ميديا»، التي تفوقت على الإعلام التقليدي في التعبير عما يجول بخاطر الجميع، لا سيما في ظل مساحات الحرية المتاحة في هذه القنوات.

وقد كتبت في بداية الأزمة الراهنة في غزة عن حدود الدور العربي في إدارة هذه الأزمة وتوجيه دفتها، ولكن مع تطور الأحداث ارتقى سقف المطالبات والدعوات العربية وتكاثرت الدعوات والمطالبات بضرورة اتخاذ الدول العربية، ولاسيما الكبرى منها مواقف أشد تأثيرا وصرامة وحسما للدفاع عن الشعب الفلسطيني.

عندما نتأمل في هذه الدعوات نجد أن حالنا اليوم، كعرب، لا يختلف عن الأمس، القريب والبعيد معا، فلا زلنا نهفو إلى الشعارات ولا تزال المزايدات تسيل لعاب بعضنا وتغري أصحابها بالاستمرار ومواصلة الهتاف والصراخ!
سؤال المليون دولار في المشهد الراهن هو: ماهو القرار العربي الواقعي الذي يمكن أن يؤثر جديا في إنهاء الصراع بغزة؟ وفي الإجابة على هذا السؤال علينا أن نستعرض السيناريوهات التي يروج لها كثيرون في عالمنا العربي، وفي مقدمتها ما يخصنا كدول خليجية، وهو قطع النفط، وهنا تجب الإشارة إلى أن معظم النفط الخليجي يذهب إلى الشرق وتحديدا إلى الصين والهند واليابان كأبرز عملاء أو مستوردي النفط الخليجي، وليس للولايات المتحدة التي يريد أصحاب هذه الدعوات إيلامها، ناهيك عن أنه لم يعد بالإمكانية استخدام موارد الطاقة كسلاح سياسي، سواء لأن تداعيات هذا السيناريو ليست كما يتوقع البعض، ورأينا كيف التفت أوروبا على قطع روسيا للغاز عن عملائها الأوروبيين بشكل دائم بسبب الحرب في أوكرانيا، أو لأن الدول المنتجة نفسها لا تستطيع الاستغناء عن مداخيلها النفطية التي تمول مشروعات تنموية كبرى في هذه الدول، فضلا عن ضرورة تصرف الدول المنتجة بمسؤولية تضمن استقرار الاقتصاد العالمي؛ لأن خلق حالة اضطراب عالمية سيؤثر سلبا بشكل قاس في الدول الفقيرة قبل الدول الغنية، وشاهدنا كيف تأثرت دول الجنوب بتداعيات أزمة «كورونا» بدرجة تفوق بمراحل الاقتصادات والدول الكبرى.

السيناريو الثاني الذي يروج له البعض هو سحب سفراء الدول التي تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل وفرض عقوبات شديدة عليها، وهذه خطوة قابلة للتحقق نظريا ولكنها فعليا لن تأتي بأي نتائج؛ لأن الحالة النفسية والذهنية التي تسيطر على الجميع في إسرائيل تجعلهم بمنأى عن التأثر أو حتى الالتفات إلى مثل هذه القرارات في الظروف الراهنة، فالأولوية القصوى في إسرائيل الآن هي لاستعادة هيبة المؤسسة العسكرية وترميم صورتها الذهنية التي أصيبت بتدهور كبير جراء هجوم السابع من أكتوبر الماضي. وبالتالي فإن سحب السفراء وغير ذلك سيغلق فقط قنوات الاتصال والتواصل المطلوبة مع الجانب الإسرائيلي، وبالتالي من الصعب إيصال الرسائل وتبادلها مع إسرائيل في وقت يحتاج فيه الجميع إلى الحديث في الأوقات الحرجة على الأقل لتفادي حدوث سوء فهم قد يفتح الباب أمام توسيع نطاق الأزمة جغرافيا بدخول أطراف إقليمية أخرى، ناهيك عن تأثير الظروف الداخلية التي تعانيها بعض الدول العربية الكبرى، وهي ظروف لا يجب أن نغفل تأثيرها الحاد في دور وفاعلية وهامش حركة هذه الدول، التي لا يجب أن نطالبها بما يفوق طاقتها وقدرتها على التحرك والعمل الدبلوماسي الخارجي الذي يرتكز بالأساس على بيئة ومعطيات داخلية.

ومن ثم فإن سحب السفراء وهو إجراء احتجاجي بروتوكولي متعارف عليه في العلاقات الدبلوماسية الدولية، ولكن من غير المنطقي أن تتبناه العواصم العربية التي يتعين عليها الحديث مع طرفي الصراع في الوقت الراهن، وليس من المنطق والعقل في شيء قطع خيوط التواصل والبقاء بمنأى عن الصراع في وقت يجب أن تتضافر فيه كافة الجهود من أجل إيجاد مخرج يحول دون سفك المزيد من دماء المدنيين العزل.

كما أن سحب السفراء لن يكون ورقة الضغط التي يتخيلها البعض في اللحظة والظروف والأولويات الراهنة، وبالتالي فإنه يبقى إجراء شعبويا صرفا قد يكون مرغوبا جماهيريا وبشدة، ولكنه لا يمت في الحقيقة إلى خيارات التحرك العقلاني الدبلوماسي الهادئ بصلة.

هناك مطلب ثالث يتردد بشدة على ألسنة الكثيرين، ولاسيما الكتاب والمثقفين العرب، وهو الخاص بغياب دور الجامعة العربية وتلاشي فاعليتها تماما في هذه الأزمة ومن ثم المطالبة بإغلاقها أو تفكيكها وإنهاء دورها المؤسسي، بعد أن اكتفى مسؤولوها بتوصيف الواقع ومسايرة أجواء الشجب والإدانة، ولكن الواقع والموضوعية يستوجب بالمقابل أن نتساءل: وما هو الجديد في دور الجامعة العربية؟ وهل سبق أن كان لها ثمة دور ما في أزمات عربية آنية ابتداء من سوريا إلى اليمن مرورا بالعراق ولبنان وليبيا والسودان؟ فالكل يدرك أن الجامعة تعيش حالة موت إكلينكي من فترة ليست قصيرة، وأنها تحولت إلى مجرد رمز لا يريد له أحد الزوال، ولا أن يتحمل مسؤولية تشييع جثمانه إلى مثواه الأخيرة، والعزاء الوحيد في ذلك أن العالم كله يعيش حالة تغيير وأن التكتلات والمنظمات جميعها تعيش مرحلة أفول تمهيدا لظهور نظام عالمي ومؤسسات تعبر عن الحالة النهائية التي ستؤول إليها التفاعلات الدولية الجارية بشكل متسارع. وبالتالي لو أن الجامعة العربية أغلقت أو استمرت فلن يتغير في أمر صراع غزة ولا أزمات العرب شيء، وعلينا ألا نعيش حالة «دونكيشوتية» والتحلي برؤية واقعية سواء في أزمة غزة أو غيرها.



drsalemalketbi@