بسمة السيوفي

الغنم والخذلان..

الأربعاء - 08 نوفمبر 2023

Wed - 08 Nov 2023


هناك نوع من الإغواء في الذهاب بعيدا إلى مكان مجهول لا يعرفك فيه أحد سوى الله، السفر ارتكاب مقصود يتأدب في حضرة الاكتشاف، وهو مختلف عن السياحة، «المسافر يرى ما يرى.. أما السائح فيرى ما جاء ليراه».

هذا هو الفرق، الوجهة هذه المرة قرية نائية في أحد الدول الأوروبية.. مكان على طرف غابة يمنح الزائرين غيوما حنونة يأخذونها معهم إلى ديارهم.

جلست صاحبتنا إلى طاولة خشبية، في أحد مزارع القرى التي تبعد ساعتين عن العاصمة، لتناول وجبة الغذاء التي رتبتها وكالة السفر والسياحة.. الأجواء خلابة والسماء غائمة.. حتى لفحة الهواء كانت رؤومة.. يتبختر على العشب دجاج وديكة.. وعند حدود شجر الغابة غزلان مرقطة ترمق الزائرين.. طيور تثبت حريتها في السماء.. وبعض الحملان تبحلق في الوجوه وما تحمل الأيادي، أعتقد أن الحمل هو صغير الخروف والنعجة.. وذكر الغنم هو الخروف.. يقولون يكفي الغنم فخرا أنه ما من نبي إلا اشتغل برعايتها، وقد شرب من لبنها سيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.

تناولت صاحبتنا قطعة كبيرة من الخبز الموجود على الطاولة لتفتتها بين أصابعها.. مدت راحة يدها ببطء وهي على كرسيها لتغري من دون الجميع حملا أبيض يتأملها من مكانه.. اقترب ببطء كالحلم البهيج.. نظرته المستعطفة أطاحت بكل احتمالات الخبث.. التقط الفتات منها بنهم المحرومين.. قضى عليه في دقيقة.. رفع رأسه بعيون الرجاء للمزيد.. نصاعة الأبيض دائما مغرية.. كانت تطمع في التربيت على رأسه بحنو.. فخفضت يدها ورأسها لتقترب منه أكثر.. مقدمة قطع خبز أكبر.. شعور جميل أن تطعم مخلوقا جائعا وتنتظر من عينيه بعض الامتنان، أكمل الالتهام بعيون يملؤها التقدير حتى قضى على آخر «فتفوتة.. وبحركة فجائية رفع رأسه ليلامس قرنه الحاد جهة العين اليسرى لصاحبتنا.. نفس العين التي تأذت من كأس زجاج تطاير مكسورا منذ 20 عاما وأنقذها المولى من فقد البصر بعد عملية جراحية دقيقة... غمرت الدماء جانب وجهها أمام الجالسين وشقت الحمرة نتائج المبادرة الطيبة.. سرت رعدة في أوصالها كما تسري في شجرة تترقب فصل الخريف.. فهي تريد العودة إلى بلادها بسلامة.

أما عنه.. فقد شرد الأرعن وولى هاربا بلا عودة.. كيف سيعتذر ذلك الطائش المتخبط في المواقيت.. المنشق عن قطيعه وعن نفسه من أجل إغراء الخبز.. تركها تتساءل لماذا لم تأت إليها الغزلان واقترب منها فقط ذاك الأبيض الأهوج؟
هب الموجودون للإسعاف.. ثلج.. غسل للوجه الدامي.. تمديد على الأرض.. شربة ماء.. محاولات لاستبانة حجم الإصابة.. الضربة أحدثت قطعا بسيطا تحت الحاجب.. لكن لابد من الثلج ليتوقف النزف.. فقد حفظ اللطيف عينها.. أما عن قلبها الجافل.. فسيشكك حتما في عواقب كل مبادرات الطيبة المستقبلية.
والشيء بالشيء يذكر.. ألا تظنون أن بعض الناس يفعل فينا هذا، نحسبهم يتدثرون بالإخلاص فنقربهم، ندَرسهم العطاء منحا، نستأنسهم فيتعاملون معنا، بقصد أو بدون، بطباعهم الأصيلة.. تنهار وقتها حسابات المواقف لأننا نترك حراسنا دون سلاح.. فقط لأننا تعاملنا باطمئنان.. مرهقة تلك الأبدية في المبادرة دون افتتان.

السؤال: لماذا تتكرر أفعال الخذلان المقيتة من حولنا؟ هل لأن الظروف جعلتنا نبرهن للخاذلين عكس ما كانوا يتوقعون؟ الخذلان يأتينا من المقربين.. وممن وثقنا بهم رغم أصوات الحذر الداخلية، والتسرع بتهميش «الغزلان» التي تنتظرنا هناك دون قرون غادرة، وبالرغم من تخلينا عن الانتقام من كل قلب يشبههم إلا أننا نبادر مازلنا.. دون رزانة، الخذلان أشد وطئا من الخسارات، لا نراه قادما عند اطمئنان البدايات، هكذا يزحف كل ما يؤذينا بلطف وتؤدة إلى أن يتمكن من الحدوث.

عليه كيف نتعامل مع شعور الإحساس بالخذلان وهو في أبدع صوره وبأقل الأضرار النفسية؟ كيف نتخلى عن السماح للذكريات المؤلمة أن تتمدد غبنا في المفاصل والشرايين؟ يقولون إن هناك خمسة مراحل لتجاوز مشاعر الخذلان.. بداية علينا أن نقبل المساندة من الأشخاص المخلصين حولنا عبر كلماتهم البناءة، فتش عن أناس ثقة يحسنون المواساة، ابدأ بتفكيك الموقف وتحليله من وجهة نظر (الغنم)، أنت بذلك تحطم فداحة الفعل إلى أجزاء، تجعله أشلاء قابلة للتجاوز، فتش عن الغزلان وأترك الغنم.

ثانيا: الانسحاب من عالم الشخص الخاذل، اصنع دوائر لعلاقات جديدة بعيدة عن عالمه.

ثالثا: التقبل ومحاولة استيعاب ما جرى، الزمن يساعد على تخفيف وطأة التخلي، فامنح نفسك الوقت المناسب، دون أن تستغرق دهرا لذلك.

رابعا: اعط نفسك الحق في الغضب والتنفيس عن المشاعر، ربما بطباعة صورة الشخص الخاذل على لوحة جدارية لترميه بالسهام في عينيه وجبهته، أو الصق صورته على وسادة، اصرخ وعاتب بكل أريحية وكأنه موجود أمامك.

أخيرا وليس آخرا: ترفع، تخل، بعد أن تكون قد استوعبت طبيعة الآخرين السلوكية، حتى لو كانت ردود فعل (الغنم) التلقائية مؤذية، ذنبهم أن معايير التعامل منخفضة وذنبك أن سقفك عظيم.

التشافي ممكن؛ لأنه ما زال في العالم أوفياء، حتى عندما تبقى آثار الجروح، وما يعول عليه بعدها هو الوقوف من جديد بشموخ، هاربين من توقع الخيبة الذي قد يزيد من معدل ظهورها، المهم أن نطبب الجرح دون حجج خرقاء تحجب الثقة عن الجميع.
الوقت جبيرة نلفها حول كسور الخيبات، وإنما هي شؤون القدر.. فنسأل المولى عوض المشاعر.
وسامح الله الغنم.


smileofswords@