عبدالحليم البراك

السؤال الأول المتغير!

الاثنين - 06 نوفمبر 2023

Mon - 06 Nov 2023


في خاطر كل إنسان سؤال يسيطر عليه، يبدأ في أول الأمر كما لو كان سؤالا يخرج من باطن العدم، بمفاجأة لا مقدمة من قبلها، ثم يبدأ في الإلحاح في ذهنه لأول مرة كفكرة، تراوده، ثم يبدأ قلق بسيط هو الآخر يطل كل مرة عليه حتى يكون سؤاله الأول الذي يتمحور حوله، كل إنسان يتعرض للسؤال الأول في ذهنه، وما إن يتم الإجابة على السؤال أو يتم تجاوزه أو يتم تجاهله إلا ويخرج السؤال الآخر عليه مرة أخرى بنفس السيناريو القديم، وذلك لأن الإنسان لا يقوم على الأجوبة في حقيقته بل يقوم على الأسئلة!
وليس السؤال الأول في طبيعته علميا أو يقتصر على مسارات العلماء فحسب، فحتى الإنسان البسيط لديه سؤاله الأول الذي يسيطر عليه ولا يفوت يومه دون الإجابة عليه حتى يحقق السؤال والإجابة أو يغلب دون الوصول إليه أو يأخذه قطار العمر نحو سؤال آخر، فالطفل سؤال الدهشة في هذا العالم يسيطر عليه هو الآخر فيكون بكاؤه هو عنوان الإجابة المزعومة ما تلبث أن تتلاشى الدموع لأن الإجابة لم تكن في الخوف بل في الحاجة بمجرد أن يتناول غذاءه الأول خارج إطار الرحم، وسؤال الطفل أيضا هو اللجوء على سبيل المثال فهو لا ينفك من الذهاب والعودة (للبيت والأم والوالدين وسرير نومه وحتى أحلامه) لأن سؤال اليوم الذي يلح عليه كما لو كان هدفه كل صباح: مهما ابتعدت إلى أين سأعود. وينفجر السؤال فجأة في حال الطفل، فبمجرد أن ينتهي الشبع يأتي سؤال الحاجة، وما تنتهي اللعبة حتى يأتي سؤال الأم، وما إن تنتهي المدرسة حتى يبدأ الحنين للمنزل وفراش نومه كما لو كان ذهب منه ليعود إليه، ومثل الكبار، فالرجل سؤاله الأول هو قوت يومه، أو سؤال الأول هو حال صحته، أو سؤاله الأول هو حاجته الأولى، وحتى يسدد الإجابة فينتهي بذلك نهم الإجابة حتى يلح سؤال أول آخر بين يديه.

لقد قدم الفلاسفة النموذج الأمثل في إلحاح السؤال الأول على أي فيلسوف وعالم وحتى أي قارئ للفلسفة هو الآخر، فتجد أنه يتمحور حول السؤال والإجابة عليه، ويقدم كل أدواته الفلسفية وحججه المنطقية في سبيل مشروعية السؤال أولا ثم ما يمكن أن يكون إجابة عليه ثم أن يختار الإجابة التي تخلق الطمأنينة الفلسفية، لقد كان رواد الفلسفة وحتى متأخريهم أيضا يركزون على سؤال محدد، بعضهم ركز على سؤال الكون، وآخرون ركزوا على سؤال المنشأ، وبعضهم أخذ لب عقله بسؤال المعرفة بينما ذهب آخرون لسؤال الإنسان نفسه بينما اختار آخرون أن يختاروا جزءا من الإنسان مثل سؤال اللغة والصورة والفن والموسيقى والرمز!
ولم يفتأ الإنسان وهو يحاول أن يكتشف نفسه حتى في لحظة تجلي عظمى اكتشف فلسفة السؤال الأول في حياة الإنسان، وبمجرد أن عرف أن هناك ما يمسى بالسؤال الأول حتى بدأ ينطلق يحاول أن يكتشف السؤال ويحل لغز الأحجية والهدف ليس أن يتحكم بالإجابة، فالإجابة متلازمة السؤال، بل الغرض هو توجيه السؤال أو خلقه من جديد أو أعادة صناعته ليكون منافسا أو يكون آخر، أو يكون أقوى؛ فجاء علم النفس ليقود منهج السؤال الأول وقبله جاءت الوجودية وهي تعيد الهيبة للإنسان صاحب السؤال الأصلي وليس الكون أو الأشياء من حوله، وجاءت أيضا الأديان لتعيد للإنسان بعضا من كينونتها فتعيد صياغة أسئلته فبدلا من أن يكون سؤال الإنسان الظلم صار سؤاله تحقيق العدل، وبدلا من أن يكون سؤاله الأول هو القلق، صارت الأديان تقدم الطمأنينة وهذا التوجيه المقصود لم يخل من خطأ فصار هذا التوجيه محل نقد من الإنسان نفسه لأنه لم يعد يعبر عن سؤاله الأول حقيقة (سواء وجودي أو نفسي أو حتى ديني) حتى بدأ يعدل من اسئلته وسط أجواء ديالكتيكية بين اليمين واليسار وفي لحظة ما يجد السؤال الصواب يختفي شعوره بالصواب والمعتدل لأنه لم يعد يملك غيره فلا ضد يبين الأشياء!
أما الآن، فيتم إعادة صياغة السؤال نيابة عنك، فيحمل الإعلام والتسويق على سبيل المثال في صناعة السؤال بدلا منك، بمعنى أن يزيل سؤالك ويضع سؤالا يناسبه أو يحقق مكاسبه هو، ويتجاهل احتياجك ويسلبك سؤالك الأول، وبهذه الطريقة تقف أمام طريقين الأول، أن تستبصر سؤالك فتقف في وجه التسويق والإعلام وتبدو حرا أو تنساق وراء ما صنعوه نيابة عنك في سؤالك الأول، فتجد الفقير يترك ما يهمه متجها إلى مالا يهمه لأن سؤاله الأول (الغنى) اختفى وحل محله سؤالهم هم وهو كيف تشتري منتجهم أو تصدق أفكارهم.


Halemalbaarrak@