هتون أجواد الفاسي

المقاومة الناعمة للحرب على غزة

السبت - 04 نوفمبر 2023

Sat - 04 Nov 2023


ونحن في اليوم التاسع والعشرين من الحرب على أهلنا في غزة وقد بدأ الاجتياح البري/البحري/الجوي الوحشي، ما زال الشهداء يسقطون والحصار بقطع كل سبل الحياة عن شمال غزة بالتحديد يشتد، واستهداف كل المحرمات الإنسانية مستمر من مساجد، كنائس، مستشفيات، مدارس، خزانات مياه، مخابز، فضلا عن الأبراج السكنية ومنازل أفراد طواقم الصحافة ومن أفظعها كان استهداف منزل مدير مكتب الجزيرة بغزة وائل دحدوح، وبينما هو يغطي الحرب، كان منزله يقصف لتستشهد زوجته، وابنه وابنته وحفيده، ومثله مهندس البث في مكتب الجزيرة في غزة محمد أبو القمصان الذي راح من أسرته 19 شهيدا في مجزرة مخيم جباليا.

استهداف آخر للصحافة لكن بشكل أكثر إيلاما.. لم يقتلوهما وإنما أشهدوهما على قتل أبنائهم وأهليهم. السعي لاجتثاث الذرية من أرض فلسطين.. ومن قال إن الأطفال ليسوا هدفا عسكريا إسرائيليا؟ إن الأطفال الفلسطينيين هم هاجس السياسي الإسرائيلي المحتل، فهذا جيل سيستمر في مقاومته ليتناسل المزيد والمزيد من أفراد هذا الشعب الذي لا يقف ولا يستسلم.

وجدت في هذه الفترة من السيل الإعلامي الاجتماعي والرسمي، العربي والأجنبي، ونحن نتفاعل معه غضبا وألما، بعض الجزر المورقة بأساليب أخرى من المقاومة، تخاطب جمهورا آخر وربما أكبر.. أحدهما الأسلوب الساخر اللاذع والذي أبدع فيه باسم يوسف جراح القلب المصري الذي أصبح كوميديا ذائع الصيت، في لقائه الناري الأول مع المذيع البريطاني الأشهر، بيرس مورغان في برنامجه المباشر، بيرس مورغان بلا رقابة Piers Morgan uncensored والذي استطاع باسم خلال أربعين دقيقة في جزء من البرنامج الذي أتيح له، أن يحول المأساة الفلسطينية إلى كوميديا سوداء ألجمت لسان بيرس في مواقع عدة من البرنامج وجعلته غير قادر حتى على التململ، وكان بين قاب قوسين أن ينهي البرنامج، أو هكذا بدا.

إتقان باسم لفن المقابلة السياسية الساخرة الخانقة دفعت بحلقة البرنامج للوصول إلى 20 مليون مشاهدة في خلال عشرة أيام وهي أعلى نسبة مشاهدة لأي حلقة من حلقات بيرس حتى تلك اللحظة، على الرغم من أن المقابلة كانت على الساتلايت وكان باسم طوال المقابلة يصارع مع سماعة أذنه التي لم تكن ثابتة، لكنه حول هذه الإشكالية بدورها إلى ميزة جعلتها جزءا من الكوميديا الحركية بحيث لا تدري هل كان صراعه مع السماعة حقيقيا أم تمثيلا لتشتيت الانتباه قليلا عن الجملة الصاعقة التي تلي كل حركة من هذه الحركات.

كانت تصدر منه بعض الشتائم وهو يعلق على إحدى المواقف والقصص ثم يستدرك ويعتذر عندما يذكره بيرس بأنهما على الهواء وهذا غير لائق، فتتحول تلك الجمل إلى ترند عبر الأثير. السخرية التي امتطاها باسم كانت بتحويل مأساة أهل غزة إلى ملهاة أجد من الصعوبة بمكان وصفها بغير ما تكرار الجمل التي كررها والتساؤلات التي رفعها مما يجعل ما قام به باسم نصا ومناورة يمكن أن تدرس في كليات الإعلام والعلوم السياسية لتصبح علامة مسجلة يطلق عليها اسمه، مثل قول بيرس اعتراضا على إجابة باسم بأنه يحول الإجابات إلى نكتة بينما الموقف جاد، فيرد عليه باسم مؤيدا بأن معه حق، الفلسطينيون من الصعب القضاء عليهم.. إنهم يعودون دوما، وهو يعرف ذلك جيدا فهو متزوج إحداهن، فزوجته من غزة ويحاول أيضا كثيرا أن يتخلص منها لكنه لا يستطيع.

فبهت بيرس، ولم يعرف كيف يرد سوى بأن هذه دعابة قاسية، فبادر باسم بقوله إنه فعلا لا يستطيع القيام بذلك؛ لأنها دوما ما تستخدم أبناءهما كدروع بشرية.

كان يتكلم بكل جدية بجملة ساخرة تسقط على الحجج الجوفاء التي يستخدمها الكيان الصهيوني في تبرير قتل المدنيين بأن حماس تستخدمهم كدروع بشرية.

كان يسأل أسئلة مصيرية مثل ما هي النسبة التي تعتبرها «إسرائيل» كافية لتحفظ حقهم في الدفاع عن أنفسهم، وما هو معامل التغير exchange rate لنسبة قتلى الفلسطينيين إلى الإسرائيليين اليوم حتى يشعروا بالإنجاز والرضا وحتى يمكننا توقع المتبقي ليقتلوا من الفلسطينيين اليوم مقارنة بالأعوام والحروب السابقة التي بلغت 1 إسرائيلي إلى 27 فلسطينيا عام 2014، أو تناوله لاستعراض جيش الاحتلال بأنه الجيش الوحيد في العالم الذي يحذر ضحاياه قبل إلقاء القنابل على رؤوسهم.

وقام بعمل المقارنة المتوقعة والتي لم يكن يتمناها بيرس مورغان وهي بأوكرانيا. قال باسم، إن بوتين لو قام بنفس الشيء وحذر الأوكرانيين قبل ساعة من إطلاق صواريخه فلن تكون هناك مشكلة مع روسيا.

مواجهة محرجة للغرب المتباهي بنفسه.

ثم أثار قصة قطع رؤوس الأطفال التي اتهمت إسرائيل حماسا بها والتي اتضح أن ليس لدى الإسرائيليين عليها أي إثبات.

وتدرج في حواره مع بيرس شيئا فشيئا حتى أوصله لنقطة شيطنة الفلسطينيين ونزع صفة الآدمية عنهم وتشبيههم بالحيوانات التي استخدمها وزير دفاع المحتل وغيره من المسؤولين الغربيين الذين اعتبروا أن تخليص العالم من حماس لا بد أن ينتج عنه بعض الخسائر في أرواح المدنيين وأن هذا أمر لا بأس به.

ردود الفعل على هذه المقابلة والأثر الذي أحدثته يمكن أن يقال بأنه أكبر من عشرات بل مئات الصواريخ.

كشفت خفايا التناقض والموازين المزدوجة وحقيقة قصة أهل غزة والفلسطينيين في صراعهم لأجل البقاء طيلة الخمس والسبعين سنة الماضية. كان مستعدا استعدادا مخيفا بالجمل المبهتة والتشبيهات البليغة والقفشات الساخرة لتتحول كل جملة وكل كلمة تفوه بها إلى ترند بشكل أو بآخر عبر العالم والثقافات واللغات.

تمكنَه من اللغة الإنجليزية وإن كانت بلكنة مصرية بسيطة أضفت على حواره جاذبية خاصة، وإدراكه لخفايا الثقافة الأمريكية وما يهزهم وما يحركهم، جعل من الناتج خطير للغاية يسقط في يد أي مسؤول إسرائيلي يحاول أن يستدر العطف بعد ذلك. استطاع في أربعين دقيقة تلخيص القضية الفلسطينية والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وتناقض كبار الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا في موقفهم من فلسطين والكيل بكيلين، يتباكون على ضحايا الكيان الصهيوني الـ 1400 ويتذكرون بصعوبة الألوف المؤلفة من ضحايا غزة الذين بلغوا حتى الساعة قرابة العشرة آلاف شهيد ثلثهم من الأطفال.

ولعل الأكثر سخرية سؤاله الذي أصر على تكراره وأنه يوجهه إلى الكيان الإسرائيلي.. إذا كانت حربهم هي على غزة، لماذا يقتلون الفلسطينيين في الضفة دون أن يكون هناك أي حماس؟
ومثال آخر على النشاط الرقمي الإيجابي نجده مع عدد من صانعي المحتوى الرقمي الشباب بالصوت والصورة مثل بيسان عودة (24 سنة) التي تطلق على نفسها اسم الحكواتية، والتي تعيد حكي القصص الفلسطينية القديمة بشكل معاصر تعبر به عن حبها لأرضها ولغزة بالتحديد.

لكنها خلال الحرب على غزة تحولت إلى موثقة ليوميات الحرب وساعاتها ودقائقها وقد حبست في أرضها مع من حبس من أهالي غزة، باستخدام كاميرتها وقصها بالعربية والإنجليزية لكل ما تلتقطه عينها الواعية لما يجري حولها من تفاصيل لا تلتقطه عدسة الأخبار.. تفاصيل الحياة اليومية للناس والأطفال، للنبات والحيوان، للسماء والأرض.

يصل متابعوها إلى 975 ألف متابع، تفتتح كل تغطية بجملتها المعهودة «مرحبا، اسمي بيسان وأنا من غزة ولسه عايشة».

وعلى نفس المنوال لكن لفئة عمرية أصغر سنا دور.. مراهقون بوعي مختلف ومن غزة أيضا، يحولون المآسي إلى مهازل في محاولة للتعايش والتآلف مع الألم والظلم والعدوان.. عبدالرحمن بطاح المعروف بعبود، ذو السبعة عشر عاما ويطلق عليه أفضل مراسل طفل، يتعدى متابعوه المليون متابع على الانستقرام ويقدم محتوى يوميا للقصف والقتل والتهجير بشكل ساخر وبخفة ظل طفولية وعلامته الفارقة، غرة شعر لامعة مقصوصة بخط مستقيم على جبينه، وابتسامة تبعث على التفاؤل والأمل في الأجيال الفلسطينية التي تستمر في رفع راية الحرية، ويتعاون معه أصدقاء في إعدادات التصوير البدائية، التي يكون الميكروفون فيها أحيانا عبارة عن لمبة بسلك مقطوع كناية عن قطع الماء والكهرباء وكل مرافق الحياة الأساسية، لكنهم مصرون على الحياة.


Hatoon_Alfassi@