بسمة السيوفي

الوقوع في الحب!

الثلاثاء - 31 أكتوبر 2023

Tue - 31 Oct 2023

عندما كنت في الصف الأول الابتدائي في مدرسة حديقة الأطفال بجدة أظن أني تعلقت بأحدهم، صبي اسمه مشعل، لا أدري إن كنت أستطيع تسمية ذلك حبا لكنه في ذلك الوقت كان إعجابا صادقا من طرف واحد.

جاءت أمه مرة إلى المدرسة لتحضر لنا كعكا.. كنت أرقبها من بعيد وأرى كيف يتعامل معها بحب وهدوء.. وعندما خرجت أمه من الصف قفزت فجأة من مقعدي وتبعتها عبر الممر لأناديها وأقول «خالة».. فلم أكن أعرف اسمها.. استدارت ثم انحنت مبتسمة وقالت «نورة.. اسمي خالة نورة».. أنت ما اسمك؟ قلت: بسمة صديقة مشعل.. عرفت نفسي لها بانتمائي له.. وأكملت بعفوية بريئة أقول: «يجب أن أخبرك شيئا مهما».. أخذت نفسا عميقا.. وخرج الكلام صادقا.. لأقول «يجب أن تعرفي أني أحب مشعل كثيرا».. أصابها الوجوم لكن لمعة إعجاب ظهرت في عينيها فقالت: « شكرا يا بسومة لأنك أخبرتني».

أكملت كلامي فقلت: «أردت أن تعرفي، لكن أرجوك ألا تخبريه أبدا»... درت بعدها سريعا إلى الخلف وركضت بضفائري المرتجفة إلى فصلي قبل أن يراني أحد.

كان هذا أشجع ما يمكنني أن أفعله للتعبير عن المشاعر تجاه صبي، الإفصاح يعتبر معمارا لحالة قد تختفي.. الانهيار لجزء من حدود الأنا، كان اختبارا بريئا لمشاعر تعتبر لغزا معقدا يتورط فيه الإحساس مع العقل والجسد.. لكن قبلها دعوني أعترف لكم أني بعدها اعتزلت التعبير غير الواعي عن الحب.. لأن مشعل غادر المدرسة.

التساؤل هنا.. وبعد كل هذه السنين.. هل تبقى آثار تجارب البدايات البريئة مرشدة لتصرفاتنا الغريزية وغير المبررة أحيانا؟ يقولون إن دماغنا بحاجة من دقيقة إلى 4 دقائق ليقرر القبول أو الإعجاب بالآخر، وتطلق أجسامنا فيضا من المواد الكيميائية تؤدي إلى تعزيز ردود الفعل الجسدية، مثل احمرار الخدود وتعرق راحة اليد وتسابق ضربات القلب.. فيقل الشعور بالقلق ويرتفع المزاج والحماس، ويغيب أي أثر للاكتئاب.

وقد تستمر حالة الوقوع في الحب أياما، أو شهورا، أو سنة، سنتين كحد أقصى من العيش تحت سقف واحد، كما تقول الدراسات.

تخيلوا أن هناك أشخاصا يفضلون الإصابة بالأنفلونزا عن الوقوع في الحب، لديهم خوف تعود أسبابه لعوامل شخصية، مثل صدمات الطفولة، الإهمال، التعرض لسوء المعاملة، مرض أحد الوالدين أو موته.

ويتشكل الخوف أثر التجارب السابقة للإنسان ليبدأ أولا بمعضلة إيجاد الشخص المناسب للوقوع في حبه.. على افتراض أنه The One & Only.. وهل هذا الاختيار هو الصحيح؟ وإن وجد هذا الشخص هل سيكون هناك تساو في مشاعر الحب في ظل تنامي شعور الرهبة من الاعتراف وردة الفعل؟

وآخر أسباب الخوف يتعلق بصعوبات التجربة ذاتها.. صعوبة الإحساس بفقدان السيطرة على النفس لأن شعور الفراشات السعيد الذي ينمو داخليا يغير تصرفات المرء المعتادة، فيتجرد من جميع أساليب الدفاع عن النفس، وصولا إلى مرحلة الانكشاف والاعتماد العاطفي، وبالتالي تنمو الثقة المزيفة التي تعرض الفرد لتهديد الخوف من الفقد، فيبدأ باعتبار العلاقة ساحة اختبار لحقيقة الطرف الآخر، قبل أن يتورط أكثر.. خاصة مع وجود احتمالية أن يأتي شخص آخر أجمل وأقوى وأفضل، فينجذب إليه الطرف الضعيف.. هنا تظهر أهمية الارتباط العقلاني مقارنة بالارتباط عن حب.. لأن الأخير غالبا ما يحفظ العلاقة من التفكك والانهيار.

الحب سلوك تحدده غاية نريد تحقيقها ألا وهي نمو النفس إلى وجودية أكبر وأكثر اتساعا مع شخص آخر، بحثا عن الأمان ظنا أنه المصدر المطلق للمعنى والسعادة، وللأسف لا ترينا القصص الرومانسية ما سيحدث بعد الوقوع في الحب، فخرافة الرومانسية، التي لازالت تسير على قدمين، تصور أن حالة الوقوع في الحب ممتدة، لا تختفي أو تزول.. بينما واقع الحياة اليومية يكشف الجزء الناقص من القصة ويرينا أنها حالة مؤقتة مستهلكة.

المشكلة الأكبر هي ارتفاع سقف التوقعات من هذه العلاقة، وشعور الخذلان السقيم، الذي يتحول إلى لوم للذات أو للطرف الآخر، وللحظ السيئ والقدر التعيس، وهناك من لا يتوب فيكرر المحاولة ركضا وراء مغامرة جديدة ليتمسك بمشاعر الوقوع اللذيذة مهما كان.

الحب التزام وتحمل مسؤولية من أجل الذات والآخر، وهو مستمر طالما استمر الجهد وبقيت الإرادة، بينما الوقوع في الحب هو فعل إحضار الناقص بكل إغراءات البقاء أو تهديدات الرحيل، مرحلة ولادة لخليط غامض من الهرمونات والمشاعر ونداءات الحواس والتجارب السابقة بسذاجتها أو عمقها، الحب لا يختفي؛ لأنه قوة خارقة يترجمها الطرفان بالتعلق والاحتياج، بالانجذاب غير المفهوم، بالاعتراف والتجاوز الروحي، بالرغبة في العنايّة بالآخر وإسعاده رغم الاختلاف.

العلاقة هي التي تذوي وتتلاشى.. لذا فالتعامل مع الاختلافات يتطلب التحدث عن التوقعات والمشاعر وتقبل اختلاف الآخر وتجربة الأشياء بشكل مختلف، فنحن نقع في الحب من أجل متعة وإثارة هذا الاختلاف.

فإن وقعت على رأسك وحافظت على تسامي ومتعة ترجمة الحب إلى سلوكيات تدعم هذه المشاعر.. فأنت بطل وقد نجوت.

الشعور الصادق بالحب لا يأتي إلا مرة واحدة في العمر.. لا خيانة فيه، عبر رحلة التكرارات والخسارات.. فشل المحاولات.. والتخلي عن التوقعات.. وربما بالاكتفاء الممتن لمن وجد في طريقك عبر التركيز على المساحات المزهرة في حقل محروق، تجارب البدايات الجميلة ترشدنا.. نحبها لأنها صنعت ما نحن عليه، ولن يهم بعدها إن رضيت نورة وترك الساحة مشعل.. أو تخلت عن حروبها كل المشاعيل.

smileofswords@