عبدالحليم البراك

الكتابة ضد التاريخ!

الاثنين - 30 أكتوبر 2023

Mon - 30 Oct 2023

في ظل الوضع الحالي، لا يمكن لأحد – بمن في ذلك كاتب هذه السطور – أن يكتب ما يرى، وستعتبر أي رواية مكتوبة الآن هي كتابة ضد التاريخ، ضد ما يحدث، ولا يمكن أن تنصف الكتابة/ الإعلام بأي طريقة كانت ما يحدث في غزة اليوم، لقد أصبحت الكلمات والأخبار والحديث والتقارير وحتى الصور التلفزيونية والنقل المباشر ليس سوى نقل رديء لحدث لم يسبقه أي حدث آخر في الخمسين سنة الأخيرة.

كل هذا حدث أمام أعين الكاميرات ووسائل الإعلام وبنقل رديء وأمانة مضطهدة في وسائل التواصل الاجتماعي في لحظات التغول الغربي غير المسبوق ضد القيم التي صنعتها الثورات الغربية التي منحت أوروبا وأمريكا الأفضلية وسط مصطلحات كنا نظنها قوية ولكنها هشة للغاية مثل الديموقراطية والثقافة الغربية والحرية والليبرالية وكل ما يمكن التشدق فيه من علم وفلسفة ومناهج ونظريات.

لقد انهارت في نظر العالم كله ما قال عنه سارتر عن الظلم في الجزائر وما ثار من أجله، وسقطت كل فلسفة كانط الأخلاقية ونظريات جان جاك روسو في الإنسان الذي يجب أن يعود لأصله الإنساني وتضحيات فولتير وثورة فرنسا من بعده من أجل الحرية، حتى ثورة مارتن لوثر كنج ضد الظلم انكشف أولئك الذي يحتفلون بيوم في العام له في اختبار غزة، لقد كشفت الدول الغربية (السياسة والإعلام حتى الآن) على أنها لم تكن تحمل من تلك الثقافة إلا قشورها ولم تكن حقا مغروسة في الثقافة الغربية، وإن كانت مغروسة فإنها لم تكن متجذرة بل سطحية اقتلعتها أحداث غزة، وإن كل ما هو متجذر من عدل وقيم ليس إلا لمواطنيهم وليس للتصدير خارج الحدود، بل إنها لم تكن إلا أداتية تتعاطها السياسة الغربية متى ما كانت تناسبها وتتخلى عنها ما رأت أنها تتعارض مع إمبراطورية المال الصهيونية في العالم أو تتعارض مع سياسة الإعلام المضلل العالمي.

الثقافة الغربية تغولت لسبب بسيط للغاية أنها خرجت من السياق الأخلاقي الذي صنعت فيه بكل بساطة متناهية، خرجت من يد الفلاسفة إلى أيدي الفاسدين، وتم توظيفها بشكل احترافي وازدواجي وتم هذا بكل سلاسة لم يلاحظها أحد، لكن في أحداث غزة الأخيرة، لم تستطع آلة السياسة والإعلام الغربية أن تفيق من لحظات السابع من أكتوبر حتى استيقظت على عريها الفاسد في التخلي عن كل تلك القيم لتسمح للمكينة الإسرائيلية في دك كل شيء في غزة المحاصرة من الأطفال للنساء للشيوخ لقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء وكل شيء تقريبا حتى لم يعد هناك أي شيء يمكن تقديمه للإنسان إلا وحشية تبرير الاجتياح من الأنظمة الغربية.

كل يوم يمر تعتبر درجة سقوط أخرى من سلم القيم الغربية التي صنعت -وظننا فعلا- القيم التي يمكنها أن تنقذ العالم لتصبح هي القيم التي يمكن التشدق فيها لنشر الارتياح بين الناس أو باسمها يمكن شن حرب لكن بعيدا عنها جدا عندما يمس الأمر إسرائيل وليتها تكتفي بما فعلت بل هي أسرفت في القتل ولن تكون منصورة.

ويمكن القول إن أي كتابة في هذا الأمر هي كتابة ضد التاريخ، وضد الحقيقة وضد ما يمكن التعبير عنه إنسانيا، فالكتابة لا يمكنها أن تصف ما يحدث، لا يمكنها أن تنقل صورة الدم المختلط بالإسمنت ولا يمكنها أن تنقل صوت الأطفال التي قطعت أطرافها ونقلت على الهواء مباشرة واختلطت بالرمل والحديد ولا يمكنها أن تصف الجوع والحصار الذي تم تبريره من كل الوسائل الإعلامية الغربية بأنه دفاع عن النفس!

Halemalbaarrak@