فهد إبراهيم المقحم

التحول الرقمي في المنظومة التعليمية

الاحد - 29 أكتوبر 2023

Sun - 29 Oct 2023

يؤمن الكثير من القادة أن التحول الرقمي يلعب دورا مهما في تحسين الأعمال وتجويد المخرجات؛ لذا يضخون الملايين من الدولارات سنويا في مساعي هذا التحول؛ لكن هذا الإنفاق الضخم والجهود المتسارعة قد لا تفلح في آخر المطاف! فوفقا لشركة الأبحاث العالمية IDC، وجد أن 59% من المنظمات يمكن وصف ما حققته في رحلة التحول بمأزق رقمي.

وتؤكد Google’s Apigee أن معظم قادة الأعمال يؤمنون بأهمية التحول الرقمي لكنهم يخطئون في فهمه وممارساته!

ومع وصول جائحة كوفيد-19 ازدادت أهمية التحول الرقمي في شتى القطاعات، فنجد على سبيل المثال أن الإنفاق العالمي في تقنيات التعليم، وفقا لدراسة أجرتها (HolonIQ)، زاد من 153 مليار دولار في عام 2018 إلى 227 مليار دولار في عام 2020، والمتوقع أن يبلغ نحو 404 مليار دولار في عام 2025.

كما أن الاستثمار الجريء في تقنيات التعليم ارتفع من 7 مليارات دولار في عام 2019 إلى 20 مليار دولار في عام 2021.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نجحت هذه الاستثمارات والجهود في تحسين العملية التعليمية؟
يرى المدير العالمي للتعليم بالبنك الدولي، خايمي سافيدرا، أن فقدان التعلم الذي يعاني منه العديد من الطلبة بسبب الجائحة أمر غير مقبول أخلاقيا، وسيكون له تأثير مدمر على حياتهم وأسرهم وبلدانهم، بل على اقتصادات العالم أجمع! كما أظهر تحليل قامت به (McKinsey) أن تأثير الوباء على تعلم الطلبة في مراحل التعليم العام كان كبيرا، حيث جعلهم متأخرين بمعدل 5 أشهر في الرياضيات و4 أشهر في القراءة بنهاية العام الدراسي السابق.

الأمر لا ينحصر على الدول ذات الموارد المحدودة، فقد أوضحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في تقرير نشرته عن الآثار الاقتصادية جراء الفاقد التعليمي، أن الضرر التعليمي والاقتصادي عام حول العالم بما فيها دول مجموعة العشرين!

والسبب في ذلك يعود على أن معظم المؤسسات التعليمية صرفت جهودا وأموالا في رقمنة المناهج الدراسية وأتمتة مماثلة للعمليات الراهنة، ثم توقفت إلى هذا الحد، وبالتالي هي لم تحقق العائد الأمثل من التحول الرقمي، بل واجهت تحديات جديدة في العملية التعليمية، كان على إثرها ظاهرة «الفاقد التعليمي» في زمن جائحة كوفيد- 19.

وللوقوف على مكامن الخلل، واقتراح الحلول الناجعة، ألخص هنا المراحل الرئيسة لرحلة التحول الرقمي:
  1. رقمنة البيانات (Digitization): وتهدف إلى تحويل المحتوى النصي من أشكال تقليدية مادية إلى صيغ رقمية، مثل: تحويل الكتب الدراسية إلى صيغ الكترونية.
  2. رقمنة العمليات (Digitalization): وتركز على أتمتة أو مكننة العمليات والخدمات لتحسين الأعمال ورفع رضا المستفيدين، مثل: أتمتة عمليات تسجيل الطلبة أو إدارة عمليات شؤون المعلمين.
  3. التحول الرقمي (Digital Transformation): وتهدف إلى الاستفادة من الثورة التقنية لتطوير نماذج أعمال مبتكرة تؤثر على سلوك وأداء المنظمة والأفراد والمجتمعات، مثل: التحول الرقمي في نماذج أعمال شركتي أوبر و أمازون.
وبالنظر إلى الجهود السابقة في رحلة التحول الرقمي في التعليم نجد أن معظمها يصب في المرحلتين الأولى والثانية، دون الوصول إلى الهدف الأسمى من ذلك التحول! فالتحول الرقمي لا ينحصر فقط على تبني التقنيات الحديثة في رقمنة البيانات والعمليات، بل يتعدى إلى الاستفادة من هذه التقنيات لإحداث نقلة نوعية على مستوى المنظومة بهدف الوصول إلى قيمة تنافسية عالية، وهذا يشمل جوانب عدة، منها: المنهجيات، ونماذج الأعمال، والحوكمة، والعمليات، وقياس الأداء، وإدارة الموارد، وطرق التعامل مع الفئات المستهدفة.

ذكرت المديرة العامة المساعدة لشؤون التعليم في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (UNESCO)، ستيفانيا جيانيني، أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة قادمة لا محالة في مجال التعليم، ولكننا بحاجة ماسة إلى أخذ زمام المبادرة لدمجها بالأسلوب الأمثل في الأنظمة التعليمية.

ولعلي هنا أذكر بعض الوقفات والإشارات المهمة في بناء رحلة تحول رقمي ناجعة ومثمرة في المنظومة التعليمية:
  • الهدف الأسمى من التعليم هو بناء مواطنين معتزين بقيمهم الوطنية ومنافسين عالميا بقدراتهم الشخصية، وما دون ذلك يعد من الوسائل والأهداف المفضية إلى ذلك الهدف الأسمى؛ فتصميم المناهج الدراسية أو طرق التعلم أو أساليب التقويم ليست هدفا ولا أمرا ثابتا، ومن الحكمة مراجعتها وإعادة النظر فيها وتغييرها بما يتواءم مع المعطيات المعاصرة والتقنيات المستخدمة.
  • تبني التقنيات الحديثة في التعليم يجب ألا يكون هدفا لذاته، وإنما وسيلة لتحقيق الأهداف التعليمية؛ ولذا من المهم العناية الفائقة في اختيار المناسب من تلك التقنيات، مع المراجعة المستمرة لأدائها واقتراح التغييرات المناسبة لتحسينها وتعظيم أثرها.
  • اختيار قيادة فاعلة ومناسبة لرحلة التحول الرقمي، فعلى الرغم من أن 87% من المنظمات تؤمن بأن التحول الرقمي سيحدث تحولا جذريا في أعمالها، وفقا لدراسات قامت بها (Deloitte)، إلا أن معظم تلك المنظمات أقرت بافتقارها إلى القيادة المناسبة لذلك التحول.
  • التحول الرقمي في التعليم لا يعني الاستغناء عن الكوادر البشرية مطلقا، وإنما الاستفادة من التقنيات الحديثة في تحسين العملية التعليمية، فمثلا: تفعيل نظرية التعلم الشخصي (Personalized learning)، ونظرية التعلم المتمركز حول المتعلم (learner-centered education)، والتعلم باستخدام اللعب (Learning through play) من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات الطالب لتقييم أدائه التعليمي والمهاري، واقتراح سلسلة من المواد التعليمية القصيرة والجذابة لردم الفجوة التعليمية لدى ذلك الطالب. ومن التجارب الناجحة في ذلك: تجربة وزارة التعليم الإستونية في تطوير مسارات تعليمية فردية للطلبة، وتجربة تطبيق (Duolingo) في تصميم مسارات شخصية لرحلة تعلم اللغة. وبالمثل، يمكن للتقنيات الحديثة أن تسهم في تحسين أداء المعلم من خلال تعزيز نقاط قوته واقتراح فرص لتطويره بناء على أدائه ومستوى طلابه.
  • يمكن للتقنيات الحديثة أن تلعب دورا مهما في اكتشاف الموهوبين من الطلبة، وبناء مسارات تعليمية تتناسب مع قدراتهم المميزة، بهدف تطويرهم وتوجيههم أكاديميا وعمليا لتعظيم أثرهم في شتى المجالات والقطاعات.
  • تمكن التقنية من توفر فرصة التعلم على مدار الساعة ومن أي مكان بطريقة تفاعلية، فعلى سبيل المثال: تستخدم جامعة (Georgia Institute of Technology) برنامجا تقنيا كمساعد تعليمي استطاع أن يجيب على 10 آلاف رسالة أرسلت من قبل الطلبة في فصل دراسي واحد، بنسبة نجاح فاقت 97%، مما جعل الكثير من الطلبة يظنون أن من يجيبهم كائنا بشريا، لا آلة مبرمجة بتقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
  • تشير استطلاعات (The Telegraph) أن المعلمين يقضون نحو 31% من وقتهم في التخطيط للدروس، وتصحيح الاختبارات، والقيام بأعمال إدارية؛ في حين أن التقنيات الحديثة يمكن أن تسهم بشكل فاعل في تحسين الأعمال وترشيد الجهود من خلال القيام ببعض الإجراءات آليا، ومن ذلك: إعداد الدروس، وعمليات التقويم، وتحضير الطلبة وإرسال رسائل فورية لأولياء الأمور في حال تغيبهم، وتنسيق لقاءات أولياء الطلبة بالمعلمين لمناقشة القضايا التربوية والتعليمية وفقا لأداء الطلبة، وإدارة عمليات التسجيل والإسناد، والإجابة عن الاستفسارات التعليمية والإدارية.

أخيرا، يجب أن ندرك بأن التحول الرقمي في التعليم اليوم أصبح ضرورة ملحة لمواكبة المتغيرات والاستفادة من التقنيات في تعظيم الأثر وتحسين المخرجات، وحتى ينجح هذا التحول يجب أن نتمسك بالقيم التربوية والأهداف التعليمية، ونبتكر حلولا شاملة ووسائل فاعلة تتناسب مع المعطيات المعاصرة ومكامن القوة في التقنيات الحديثة.

moqhim@