هند علي الغامدي

«وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي»

الاحد - 22 أكتوبر 2023

Sun - 22 Oct 2023

أرجع أحد الأبحاث الخاصة باللغة العربية ضعف دور اللغة العربية في مجتمع المعرفة القائم على اقتصاد المعرفة إلى اللغة العربية نفسها؛ لأنها - حسب البحث - تحولت بعد مراحلها الأولى التي استوعبت فيها الحضارة والعلم إلى إطار جامد يخضع للتعقيد والأبنية الصارمة أكثر من تحليها بالمرونة والقدرة على الاحتواء، وذلك بعد أن وضعت لها الأصول النحوية والمعجمية وظلت ثابتة لا تتغير، مسجونة بين جدران القديم؛ مما أدى إلى أن يتجاوب العقل العربي مع ذلك السجن بسجن مماثل، والنتيجة أن جعل ذلك العرب يفكرون كما يتكلمون ويتكلمون كما يفكرون؛ وهذا ما يعلل -حسب ذلك البحث- تأخر العربية اليوم في مجالات العلم والمعرفة قياسا إلى الإنجليزية.

للأسف هذا الكلام حول جمود اللغة العربية وجمود قواعدها ومعياريتها يدندن به بعض الباحثين منذ زمن بعيد ومازالوا، ومع أنه غير صحيح وقد تصدى كثير من المنصفين للرد عليه، إلا أن الصادم في ذلك الرأي هو نسبة الضعف الذي يعيشه المجتمع العربي قياسا إلى المجتمع الغربي المتقدم إلى اللغة العربية وأصولها وقواعدها ومعياريتها، ولولا هيبة اللغة العربية لكان الضحك ردا كافيا، وشر البلية ما يضحك؛ فقد تحول فقر العقول، ونزعة الاستهلاك بكل أشكاله، واستسهاله في مقابل الإنتاج ولا سيما مع عدم وجود الحاجة في ظل توفر المنتجات وتوفر المال للحصول عليها، وفي ظل غياب الطموح والاعتماد على النفس، واستمرار الاتكال على الغير ومنتجاتهم العلمية والمعرفية، وفي ظل ضعف الثقة في الذات العربية في مقابل الثقة في الذات الغربية، وفي ظل استمراء الراحة والخلود إليها، وفي ظل غياب العزة العربية والوطنية التي تأبى على العربي أن يكون تابعا لغيره، وتأبى على المواطن أن يرى وطنه أقل من غيره وأن يراه معتمدا على غيره فيما يشبه الاستعمار؛ ولكنه استعمار اختياري فكري وعاطفي يجعل المواطن لا يجد غضاضة في تصنيف متأخر لوطنه ولغته.

المشكلة ليست في اللغة العربية ولا في قواعدها، بدليل أن اللغة العربية اليوم تهجر من أبنائها على الرغم من كل ما يبذل من أجلها من جهود ودعم على كافة المستويات والأصعدة، وتهجر قواعدها في حال الحديث بها، وتستبدل العامية؛ بل والمشوهة منها بالفصحى في مقامات الفصحى، أو تستبدل الأجنبية أو اللغة الهجين بالعربية، وعلى الرغم من هذا الهجر؛ فمازال المجتمع العربي متأخرا عن المجتمع الغربي، وما زالت تصنيفاته أقل من الطموح، وما زالت النظرة إليه وإلى العرب دون المستوى المأمول، وهذا يعني أن اللغة العربية لا علاقة لها بذلك التأخر؛ بل السبب الرئيس في ذلك التأخر هو تأخر العرب أنفسهم وجمودهم العلمي والمعرفي الذي واكبه جمود لغوي؛ فاللغة ستحمل العلم وأشكال المعرفة التي ينتجها أبناؤها، وتزدهر بها؛ مفردات ومصطلحات وتراكيب وأساليب؛ فإبداع العرب وابتكارهم وتفوقهم في إنتاج العلم والمعرفة سيؤدي إلى ابتكار اللغة التي تعبر عنها، وتقدم المجتمع الغربي في إنتاج العلم والمعرفة هو السبب في بزوغ نجم الإنجليزية وليس العكس، وهكذا الأمر في العربية.

والحل هو الخروج من الرضوخ لقانون الجهد الأقل الذي جعل العرب لسنوات طويلة يكتفون باستهلاك ما يتوفر لهم من علوم الغرب ومنتجاتهم العلمية والمعرفية دون تفكير في نتائج هذا الأمر على المدى البعيد وآثاره المستقبلية على الصعيد الوطني والعربي والعالمي، والخروج من حالة التمجيد والانبهار العربي بالمجتمعات الغربية وثقافاتها ولغاتها الذي جعل البعض يظن أن العلم والإبداع والابتكار من خصائصهم ومهامهم؛ لأنهم يملكون ما لا يملكه العرب من الذكاء والتفكير العلمي، إلى حالة الفهم واستيعاب العلوم والمعارف بلغتها الأصلية أولا، ثم التدرج عبر سلسة من المراحل التي تنتهي إلى مرحلة الإبداع والابتكار والانطلاق إلى الإنتاج العلمي والمعرفي وتوطينه باللغة العربية التي ستتداعى حينها لحمله ونقله وتيسيره وتسهيل انخراط المجتمع العربي في عوالم المعرفة، ولاسيما إذا تم ذلك من خلال سياسات التخطيط اللغوي الراشدة؛ ولا يعني هذا الطرح التسليم بالافتراءات على اللغة العربية، والادعاء بأنها جامدة؛ إذ كيف تكون جامدة بكل وسائلها وآلاتها في ابتكار المفردات والمصطلحات والأساليب من اشتقاق، ونحت، وقياس، وتعريب، وبمرونتها في استقبال الألفاظ غير العربية واحتوائها ضمن العربية وفق أنظمتها اللغوية، كما كانت كريمة في إرسال الألفاظ العربية إلى اللغات الأخرى في عملية طبيعية بين اللغات الحية تتمثل في التأثر والتأثير، ولا سيما أن اللغة العربية هي أقدم لغة عرفتها الإنسانية ما زالت حية إلى اليوم بكامل منظومتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، مع مرونتها في مواكبة العصور المختلفة والمقامات المتنوعة إلى هذا اليوم، وقدرتها على حمل العلوم والمعارف؛ بل والأعظم من كل هذا قدرتها على حمل القرآن الكريم الكتاب العالمي المقدس،- ولكن المقصود أن اللغة العربية استطاعت عبر الزمان وبكل اقتدار وبكل ما تملكه من ذخائر لغوية تعريب مسميات ومصطلحات المعرفة المستوردة أو ترجمتها، وأن إثراءها بمفردات ومصطلحات وتراكيب وأساليب عربية أصيلة، ومواكبتها بها للابتكارات العلمية والمعرفية الأصيلة أيضا يعتمد على أن يكون أبناؤها روادا ومنتجين ومبدعين ومبتكرين، لا مستهلكين فقط، أما أن نجلس ونقول إننا متأخرون بسبب جمود اللغة العربية؛ فهذا هو التأخر عينه، ورحم الله الشاعر حافظ إبراهيم؛ إذ يقول وكأنه يرد على ذلك الاتهام الجائر للعربية:

رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتــــــي
ولدت ولما لــــــم أجد لعرائسي
رجالا وأكفاء وأدتُ بنـــــــــــاتي
وسعت كتاب الله لفظا وغايــــة
ومــا ضقت عن آي به وعظـــات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيــــــــــــق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامـــن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
ومما يؤسف له أيضا أن كثيرا من العرب ما زالوا يدندنون على خسائر الماضي والضعف الذي أصاب اللغة العربية في الماضي وأثناء فترات الاستعمار، ولم ينتبهوا إلى أن ذلك انتهى، وإلى أن اللغة العربية اليوم قد تحررت من ربقة الاستعمار، ولكنها لم تتحرر من ربقة استعمار العيش في الماضي واجترار ذكرياته السعيدة والحزينة، والبكاء على أطلالها، صحيح أننا نأخذ دروسنا من الماضي، ولكن لا لنقف عندها، وإنما لنقيمها ونقومها، ثم ننطلق إلى صنع الحاضر والمستقبل الذي لا نكرر فيه أخطاء الماضي السياسية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية والعلمية والمعرفية، وهذه الأخيرة تحتها ألف خط، لأن المعرفة اليوم صارت مصدر القوة وهي من ركائز الاقتصاد الوطني والعالمي، وبها تقاس قوة المجتمعات وعالميتها، وقوة المجتمعات العربية اليوم في تحولها إلى مجتمعات معرفة تركز على جودة التعليم وتطويره وتحسين مخرجاته وتمكينها من المنافسة عالميا، مع الاهتمام الفائق بالتعليم الأساسي في المرحلة الابتدائية ولاسيما المواد التأسيسية وعلى رأسها اللغة العربية والقرآن الكريم والسنة النبوية والرياضيات والعلوم والمواد التي تعلم مهارات التفكير وأنماطه، وتغرس المبادئ والقيم وروح الانتماء، وتعزز الهوية العربية والوطنية، وكذلك تضع نصب عينيها هدف التفوق في العلوم والبحث العلمي والتقني، إضافة إلى إكساب المتعلمين القدرات والمهارات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتمكينهم من إتقان مهارات المستقبل التي تدعم قدرتهم على الإبداع والابتكار، وبلغتهم العربية، كما تركز على إشاعة المعرفة في المجتمع باللغة العربية سواء أكانت معرّبة أم أصيلة، وهذا جميعه سيكون قوة للغة العربية ومصدر أمن لها ولأوطانها.

هناك أمور كثيرة تحتاج إلى دراسة وتقييم؛ فمنها على سبيل المثال ما يجب أن تقدمه الأعداد الكبيرة من المبتعثين العرب إلى الدول المتقدمة علميا ومعرفيا لمجتمعاتها من تطوير وإثراء ونقل للعلم والمعرفة، وتوطينها وإنتاجها وتمكينها في المجتمع من خلال إشاعتها فيه باللغة العربية، واستثمارها فيما بعد اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، فليس الغرض استنساخ ما عند الغرب ونقله إلى المجتمع فقط- وإن كان نقله إلى العربية أمرا مطلوبا ومهما في البداية -، ولكن الغرض استيعاب العلم بلغته الأصلية وهضمه، ثم نقله، وتوطينه إنتاجا ونشرا واستعمالا، والوصول إلى مرحلة الإبداع والابتكار باللغة العربية؛ لأنهم ذهبوا ليستوعبوا علومهم ثم ماذا بعد العودة؟ سنوات طوال مرت، ماذا حدث؟
بقي العلم عندهم، وبقيت التبعية عند العرب، عقود وعقود من الابتعاث العربي إلى الخارج بلا تخطيط لكيفية مماثلتهم أو التفوق عليهم بعد العودة إلى الوطن، حتى صار الابتعاث من المستلزمات الفردية الطبيعية للوظيفة والترقي الاجتماعي أو الوظيفي؛ لا من المستلزمات الوطنية لازدهار المجتمع والوصول به إلى المنافسة العالمية حقيقة لا مجرد شعارات، عبء كبير ومسؤولية ضخمة تقع على عاتق المبتعثين؛ إذ عليهم تعول الأوطان في نهضتها وتقدمها وترقيها إلى مصاف الدول المتقدمة؛ بل ومنافستها والتفوق عليها؛ ولذلك تتسابق الدول الأجنبية في استقطاب الكفاءات التي أفادت مما درسته وحصلته لديها ونبغت فيه؛ لاستبقائها والاستفادة منها في مزيد من النهضة والتقدم، وحق لهم ذلك؛ فالثروة البشرية هي أغلى ما تملكه الدول ولاسيما مجتمعات المعرفة؛ ولذلك تعوِّل المملكة العربية السعودية اليوم كثيرا على أبنائها وعلى القوى البشرية وتنميتها في صنع مجتمع المعرفة القائم على اقتصاد المعرفة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويظهر ذلك من خلال محاور رؤية 2030 وأهدافها الاستراتيجية، ومن خلال برامج تحقيق الرؤية في المجالات المختلفة، وعلى رأسها برنامج تنمية القدرات البشرية الذي تتشاركه المجالات المختلفة في الدولة؛ لأنه يستهدف تمكين المواطنين من امتلاك القدرات والمهارات الأساسية ومهارات المستقبل التي تؤهلهم لأداء أدوارهم الوطنية إضافة إلى القدرة على المنافسة العالمية، والإسهام في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولذلك فليس من الغريب أن يكون هدف العناية باللغة العربية (اللغة الوطنية) من الأهداف الاستراتيجية لهذا البرنامج، إضافة إلى جملة طموحة من الأهداف التي تركز على المواطن؛ إيمانا بأن تحقيق مجتمعات المعرفة العربية يبدأ من تكوين القوى البشرية الوطنية المنتجة والمبدعة والمبتكرة القادرة على صنع المعرفة ونشرها واستثمارها في تحقيق الازدهار والتنمية للأوطان ومواطنيها، وهنا ستتداعى اللغة العربية لهم وللقيام بدورها في هذه المجتمعات وهذه التنمية.

أخيرا، يقول صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود في حديثه عن الشعب السعودي «أعيش بين شعب جبار وعظيم، فقط يضعون هدفا ويحققونه بكل سهولة، ولا أعتقد أن هناك أي تحديات أمام الشعب السعودي العظيم»، وهذا يفسر التحولات السريعة والمبهرة التي تعيشها المملكة العربية السعودية اليوم؛ حيث يقف وراءها إيمان عميق بقدرة المواطن السعودي ودعم لامحدود له؛ فالإيمان بأهمية القوى البشرية الوطنية ودعمها هو الخطوة الأولى في تحقيق المعجزات بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.