بسمة السيوفي

التلاشي كموضوع..

الثلاثاء - 17 أكتوبر 2023

Tue - 17 Oct 2023


تصحو باكرا كالعادة.. تغتسل.. تنتظرك السجادة.. تصنع فنجان قهوة داكنة.. ترتمي في مقعد ما.. تنظر إلى الغيوم المرسومة على سقف الغرفة.. تتواطأ مع الأزرق في احتفالية ترحاب.. تقلب بصرك في الجدران.. تتأمل ملامح وجهك في صورة قديمة أقصى الرف عندما كنت في السادسة عشرة.. تسترجع النجاحات والخسارات بكامل قواك العقلية.. تدرك أنك تجاوزت الكثير.. ساندك والداك حتى أنهيت الجامعة.. تخليت عن حلم الطب من أجل سبب لا يقنعك الآن.. تزوجت.. أنجبت.. وخلال كل ذلك عملت.. ثابرت لتحصل على الشهادة الأكبر.. في عمر أكبر.. الفرحة تتصاغر بعد رحيل والديك.. كنت تهاجر ولا تضل عند العتبات.. تتشتت دون بعثرة.. لا يزال هناك شعور أرعن يتربص بك.. بينما رائحة القهوة تبحث عنك فيك.. تتساءل ماذا يجب أن تفعل غير الذي فعلته بكل قلب وجهد حتى لا تتلاشى ببطء.. وحتى لا تختفي تلك الكينونة الذاتية!
جميع نواحي الحياة لها أسسها في الكينونة.. في التفكير والتكلم، والعمل، والتمحيص، والشعور. هي أن نوجد وأن نكون موجودين، بينما منظومة الوجود بشكل عام تكرس فكرة أن كل ما خلق سيفنى، وأن الإنسان ما ولد إلا ليزول، لكنه يقاوم التلاشي بكل ما أوتي من قوة عبر إيجاد صيغة لوجود استثنائي.. عبر تجربة صناعة عالم مضاد للواقع، ليبقى أمام حقيقة مطلقة وهي أنه وبعد كل هذه المثابرة والتعني يتربص به الرحيل عند أي خطوة.. فكل الحالات توجد لتزول، نحن نتلهى بما نظن أننا نصنعه أو نفعله هروبا من فكرة النهاية التي تنتظر. التلاشي يتجاوز الإدراك البشري؛ لأننا لا نعرف أحدا تلاشى من قبل وعاد سالما.

ربما كان موضوع المقال فلسفة رمادية هذا الأسبوع.. لكن ما رأيكم فيمن يقول إنه بدلا من الموت على «مشارف الثمانين من العمر، ممددا على سرير المرض، وموصلا بأنابيب القسطرة، ومصابا بخلل عقلي، ستموت، بعد مشيئة الله، لكن في عامك المئة وثلاثة عشر، في ملعب التنس، بعد أن فزت بالمباراة.. أو في سيناريو آخر، ربما مقتولا على يد زوجتك لأنك غازلت امرأة أخرى». يرى العلماء أن الشيخوخة هي الخطر الرئيس على الإنسان، أكثر من السرطان، أو السكر، وحتى الزهايمر.. وأن التقدم الطبي سيمكن البشر من العيش لمئات السنين.

سطعت فكرة محاربة الشيخوخة، عبر محاربة الموت نفسه، في سبعينيات القرن العشرين، وذلك بتجميد البشر.. شاهدنا أبعادها في أفلام الخيال العلمي، «تزجيج المخ، أي تجميده إلى درجة يصير فيها شبيها بالزجاج، ثم إعادة المجمدين للحياة. بعض الأجنة جمدت بالفعل، لكن بطريقة التجميد الحالية التي تقضي على كثير من الخلايا العصبية، لن يعود أي منهم حيا.. فكيف إذن يتم رفع كفاءة الإنسانية جمعاء.. يقولون إنه بالإمكان نقل النوع الإنساني إلى مرحلة معززة يكون فيها خارق الذكاء بواسطة دوائر كهربية عصبية تزيد من سرعة المعالجة العقلية للبيانات.

«بعد الإنسانية» هو مشروع علمي يهدف لتطوير إمكانات وقدرات الإنسان البيولوجية، والعقلية، والنفسية، وتوسيعها.. بالاستعانة بتقنيات حديثة والإفادة من كل العلوم البيولوجية والرقمية والذكاء الاصطناعي لإطالة العمر. يقول عالم التقنية الحيوية ناثانيل ديفيد بشأن ما بعد الإنسانية أنه يمكن تأهيل الإنسان للولوج بعقله داخل شبكة الإنترنت ليصبح كيانا «سيبرانيا» بالكامل، أو يصبح موجودا على شبكة الإنترنت، ويعني هذا أن ما بعد الإنسان لن يصبح إنسانا بمقاييسنا الراهنة.

عليه لم نعد ندري مما نخاف.. هل من الرحيل فجأة أم من الانتزاع من براثن الشيخوخة قبل أن نصبح كائنات سيبرانية، لكن الشيء المؤكد أنه مهما طالت الرحلة.. نحن موقنون بأننا ميتون نعيش بين أموات.. إذن لماذا نموت؟ لماذا يختار الموت أفضل من فينا؟ هل لأنهم نجحوا في امتحان العبور فلا داعي لوجودهم على الأرض أكثر من ذلك؟ هل لأن ابتلاء المرء بموت من يعز عليه يبين الصبر، ويمتحن الشكر.. العدالة أن لدى الموت الحق في عدم التمييز بين من يكون طيبا أو شريرا بمقاييسنا.. ومن يملك موقعا رفيعا أو وضيعا، حتى أنه لا يستأذن الأنبياء والملوك، ويصيب الجميع بسهامه.. الجواب في هذا السياق يقتضي أن ندرك حقيقة أمرين؛ الأول: أهمية الموت، والثاني مكانة الموت في حياة الإنسان.. لأن الإحساس بحتمية التلاشي بعد الحياة يسهم في كشف الواقع الإنساني.. من داخله وأمام نفسه، فـ «لولا ثلاثة، ما طأطأ ابن آدم رأسه من شيء: الموت، والفقر، والمرض، وإنه مع ذلك لوثاب»، كما ورد في الحديث الشريف. أما عن موقع الموت في الحياة؛ فنحن بين مترقب وخائف.. بينما الذي يؤمن أن الحياة قنطرة تعبر به إلى الحياة الأساس.. وأنها أمانة مستودعة عنده لأمد محدد.. سيسارع الخطى إلى أداء واجباته والقيام بمسؤوليّاته، ولا يأخذ مداه في الارتكاب وتدمير رصيد الخير.

أختم بعبارة لمصطفى محمود يقول فيها «إنه لا يوجد وهم يبدو كأنه حقيقة مثل الحب، ولا حقيقة نتعامل معها وكأنها الوهم مثل الموت، فالله منحنا الحياة ولا يمكن أن يسلبها بالموت، ولا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة، وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة أخرى بعد البعث، ثم عروج في السماوات إلى ما لا نهاية».

إذن لا عدم محض.. ولا فناء صرف.

فاللهم لا اختفاء ولا تلاشي.. اللهم الأثر الجميل.


smileofswords@