الغرب.. تضاؤل المركز وتناقض الأنموذج
الثلاثاء - 17 أكتوبر 2023
Tue - 17 Oct 2023
ظلت مسألة كروية الأرض أو انبساطها مرافقة مع الوجود الإنساني كمسألة جدلية، وإبان ازدهار الحضارة الإسلامية أكد العديد من العلماء المسلمين على حقيقة كروية الأرض، لكن القضية لم تحسم إلا في بداية النهضة الأوروبية، وتكوير الأرض يدل على أن كل نقطة على سطح الأرض هي بمثابة المركز لكن النظرة الغربية للذات وللآخر جعلت من الأنا المركز - فعلى البعد الزمني اختلقت نظام غرينتش (قرية في بريطانيا) كخط وقتي صفري للعالم، وعلى البعد المكاني تم تسمية الشرق الأدنى والشرق الأوسط تبعا لمركزية موقع أوروبا الجغرافي بالنسبة لآسيا.
نظرة أوروبا لذاتها باعتبارها المركز العالمي هي جزء من فكرة الطغيان والاستبداد الثقافي الذي صاحب النهضة الأوروبية بمخترعاتها ونظرياتها العلمية، نظرية هايبولت تين النقدية مثلا، لكن الخطر الأعظم كان في اكتشافاتها الجغرافية التي صاحبها عملية السطو على جغرافيا الآخر، هذا السطو تم تسميته تمويها بالاستعمار أي البناء كجزء من الهيمنة الثقافية على الغير، من سمات اضمحلال هذه النظرة الانسحاب الفرنسي الأخير من غرب أفريقيا، لكن رواسب النظرة الثقافية في الغرب لا تزال حتى الآن أسيرة لفكرة المركز والأنموذج، الإعلام الغربي لا ينفك من النوح على أوكرانيا بينما يؤيد الاحتلال الصهيوني لفلسطين!!.
في تسعينيات القرن الماضي، بشر الغرب عبر إعلامه ومفكريه بعملية العولمة وتقارب جغرافيا الدول بحيث يصبح العالم بمثابة القرية الواحدة، فهل أخطأ الغرب بالتبشير بالعولمة؟، هل اعتقد أنه سيستمر في نظرته لذاته بالأنموذج والمركز وتبعية الآخر له؟، لا يزال الخطاب الأمريكي يقسم العالم إلى ديمقراطي واستبدادي، ولا يزال حتى الآن يستخدم عصا العقوبات الاقتصادية على الآخر باعتباره المركز العالمي!!.
المفاجأة التي صدمت الغرب جاءت من بوابة العولمة التي بشر بها، فمثلا عرفت الشعوب الغربية نفسها حقيقة وعدالة القضية الفلسطينية بفضل التطور التقني في مجال الاتصالات بعد أن كان الغرب ينقل الصورة المضللة عبر الإعلام الرسمي، كما أن العولمة قد اعتقت العديد من الدول من محدودية الجغرافيا لتنطلق ضمن آفاق التقارب العالمي لتصنع واقعا جديدا في عالم اليوم، فعلى سبيل المثال، سقطت الهند في الماضي تحت أسر بريطانيا بآلاف محدودة من الجنود بفضل التطور التقني للعسكرية الإنجليزية في ذلك الوقت، على الرغم أن مساحة بريطانيا لا تعد شيئا يذكر مقارنة بالقارة الهندية، لكننا شهدنا هذا العام مفاجأة، فقد أزاحت الهند بريطانيا من المركز الخامس في القوة الاقتصادية العالمية واحتلت مكانها، بينما قبل البريطانيون أن يدير حكومتهم رجلا هنديا كي يخرجهم من أزماتهم المالية المعقدة والتي أعقب خروجهم المتهور من الاتحاد الأوربي (بريكست)!!.
المثال الآخر، هو الصين التي تحولت ضمن سياق العولمة إلى مصنع العالم، بكين هي المركز الأساسي الدولي لإمداد وتغذية الأسواق العالمية من البضائع والمنتجات، وبالتالي هي مركز سلاسل الإمداد العالمية، وهي اليوم قد قطعت شوطا كبيرا من برنامجها الحزام والطريق التي يجعلها الشريان المالي الرئيسي للاقتصاد العالمي.
أيضا، في السنوات الأخيرة بدأ العالم يشعر بتغير نوعي في مجال الطاقة العالمية، أصبحت منظومة أوبك بقيادة المملكة العربية السعودية تلعب أدوارا محورية في ضبط أسعار الأسواق العالمية، لقد تحولت الرياض إلى مركز عالمي لإدارة الطاقة في العالم، وبدأ العالم يدرك مدى التغير الفعلي الذي أحدثته الرياض في إدارة أهم ملف اقتصادي حيوي في عالم اليوم.
خاتمة القول.. من الصعب الحديث عن أفول زمن ما كان يسمى بالمركز الغربي كون الدول الغربية لا تزال تتمتع بمزايا نوعية وسمات تنافسية تؤهلها للبقاء ضمن السياق التنافسي العالمي.. لكن الغرب أضحى يعاني بشدة من فشل أنموذجه المتهالك، الأمر المهم الآخر أن مراكز جديدة محورية وتنافسية بدأت تتشكل في عالم اليوم وتضع بصماتها الجلية في رسم ملامح المستقبل.
albakry1814@