نيابة الوطن.. شكرا!
الاثنين - 16 أكتوبر 2023
Mon - 16 Oct 2023
جمع الديات قضية مجتمعية قد تكتنفها العاطفة وتتراوح فيها الآراء بين مؤيد ومعارض ومحايد.. ينادي المؤيدون باستنهاض العواطف؛ لأن القصاص مؤلم لأم القاتل وأهله ويرفع الرافضون راية حق المقتول بوصف القصاص الحد الأدنى من الإنصاف لحياته المهدرة وأمه وذويه بينما يطالب المحايدون بضرورة تطبيق العقوبة إذا كانت مستحقة لضمان رسوخ قواعد النظام الاجتماعي وسلامة أرواح الناس التي حرم الله إلا بالحق.
ونعلم جيدا أن الأعراف القبلية العريقة جزء أصيل من تاريخنا العربي المجيد؛ فالقبيلة العربية معروفة بتكاتفها القوي لحماية أبنائها في وجه الظروف الصعبة أيا كانت ولعل جمع الدية والجاهة الرفيعة لعتق من يواجه القصاص مهما كان المطلوب - هو أهمها؛ فكان جمع الملايين من المتبرعين يتم بشكل عشوائي بحسن نية في الماضي، إنما وللأسف فإن هذه الأموال الفلكية الطائلة أيضا استثمرها البعض في غير الهدف المخصص لها حتى وصلت للإضرار بالمصالح الوطنية في ظل غياب الرقابة، وهذا ما تنبهت له عيون الأجهزة الحكومية الساهرة التي ما فتئت ولا توانت في بذل جهودها يوما فلم تترك مسارا قد يسبب الأذى إلا أقفلته.
هنا لا بد من الإشادة بدور النيابة العامة التي وببعد نظر القائمين عليها استشعرت مبكرا تسرب هذه التدفقات المالية إلى قنوات غير مشروعة وأيضا استغلالها في النصب والاحتيال وتجارة الدم، فأصدرت تحذيرا صارما بمنع الإعلان عن الديات أو جمعها إلا تحت رعاية ورقابة إمارة المنطقة بما يكفل رفادة قيمة الدية عند توفر عفو أولياء الدم، حيث يكون جمع الديات بعد إتمام عقد الصلح ومن ثم فتح حساب بنكي محدد المدة تحت إشراف إمارة المنطقة حصرا، ولا يكون لأي طرف من أطراف القضية أي صلاحية على الحساب نهائيا.
ونلمس أهمية هذا التوجيه مع تكرار بعض الأحداث والتزايد في وتيرة خطاب مقيت يحمل الكثير من العدائية والاستفزاز والاستقطاب الضار فيغدو التماهي الكامل مع هذه التعليمات بما يعود بالنفع علينا ككل ركيزة وطنية مهمة لتحقيق السلم والتماسك الاجتماعي، والعلاج الناجع هنا يبدأ من تكاتفنا العتيد مع الأنظمة كمجتمع متحضر واع.
فبين حين وآخر نقرأ ونسمع عن حوادث مؤلمة تهز الوجدان الجمعي وتدمي الضمير قبل العين ولسنا في صدد تحليل حادثة بعينها فكل قضية لها حيثياتها ودوافعها وظروفها، وإذا كان من المعلوم أن كل مجتمع مهما كان آمنا مستقرا فإنه عرضة لهذه الشرور؛ لأنه في النهاية مكون من بشر.. إنما بعض الحوادث البارزة كما تتناقلها وسائل التواصل تكون مثقلة بحمولة ضخمة من العنف والقسوة بما يفوق التعبير حيث (تتقدم كل قواميس اللغة باستقالتها).
(هل حياة إنسان ما أهم من حياة إنسان آخر؟) القصاص أم العفو.. يبرز في المشهد رأيان على طرفي نقيض.. الأول يسلط الضوء على بشاعة الحادثة وغياب الرحمة والندم وتلاشي تأنيب الضمير وانتفاء الحزن والتوبة عند القاتل، منتهيا برفض العفو، والثاني يكثف الجهد على أهمية عتق رقبة منتهيا بحشد أكبر الجاهات عند دار أهل المقتول مطالبا بالعفو، ولكلا هذين الطرفين الحق في الطرح طالما كان باحثا عن الخير.. إلا أن ما يباغت الحق أن يستخدم في غير مكانه!
فكيف يجرؤ من يمتنع بشكل متعنت عن المسامحة في حقه الشخصي بمبلغ مالي لمقترض معسر أن يناشد أهل المقتول بضرورة العفو عن القاتل! ولا يكتفي البعض بذلك بل ويزايد بتصنيف كل من يعاضد تطبيق الحد ويرفض جمع الدية للقاتل بأنه في خانة المفتئين على الدين، ويطالب بضرورة قبول ولي الدم العفو أمام حشد الوجاهة الضخم مستخدما الضغط النفسي والاجتماعي بدلا من التعاطف الحقيقي والإقناع طلبا للأجر والمثوبة - متناسيا بأن الصفح له آداب وشروط وليس صفقة مؤلمة تتم تحت التهديد لأهل الضحية والأم الثكلى!
في الأزمان البعيدة قبل أن تعرف البشرية دولة القانون درج العرب على وضع نظام اجتماعي ضامن للاستقرار يقوم بإعلاء مكانة الرجل الذي يمتلك القيم العربية الأصيلة كالشهامة والنخوة وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم بما يمثل ضمانا لإعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها.. ومن هنا نشأت المشيخة من أجل إحقاق الحق وإقامة العدل خاصة في القضايا الملتبسة؛ فكان وما زال شيخ القبيلة رجلا مهيبا يحظى بالاحترام والتقدير بوصفه المسؤول عن حفظ (مدونة السلوك) في القبيلة.
ولعلنا اليوم وقد غدونا في دولة القانون الحديثة نرى نقلة نوعية في هذا المجال فكسب الاحترام يولد من الحكمة والإنصاف للكل على حد سواء، والاحترام يسقط حكما أمام الظلم أو استخدام القوة لترويض الإرادة وإجبار الآخرين على التنازل عن حقهم وقبول الدية؛ فإذا فرطنا فيه فإننا لا سمح الله - سنقف على قارعة (انتكاسة أخلاقية)!
المشيخة القبلية مؤسسة أبوية وجاهية وقورة ورمزية ثمينة للشرف والشجاعة ولم تكن يوما من الأيام مجرد فئة متعصبة أو غير عادلة؛ فعبر التاريخ ترصعت الصفحات بالإشادة العالية بدورها الجوهري المهم الكبير في المجتمع، نعم.. المشيخة مرجعية ذات وجاهة كبرى في الذاكرة العربية بما قدمته من موسوعة الفضائل ومكارم الأخلاق وبمواقفها المشرفة المنقوشة بالقيم والشيم العربية الأصيلة.
الروح هي القيمة العليا، وقد ارتبط مفهوم عتق الرقبة في وجدان المسلمين بأنه عمل صالح إذا كان ابتغاء وجه الله فمن أعتق رقبة مسلم أعتقه الله من النار، وفي المقابل حدد ديننا الحنيف أن دم المسلم على المسلم حرام فعصم الدم مقدم على كل ما سواه وحكم القتل العمد هو القصاص، وبالتأكيد أن جمع الدية في حالات القتل الخطأ أو وجود ظروف مخففة لمساعدة المتهم في تخطي أزمة الغرم المالي- أمر مندوب ومحمود من باب التكافل الاجتماعي، أما جمع الدية لعتق رقبة من القصاص بعد قيام القاتل عامدا متعمدا مع مجموعة كاملة بقتل شخص أعزل بطريقة مخيفة فذلك ترسيخ لثقافة الغاب بتشجيع الجرأة على القتل والاستهانة بالأرواح وزيادة الفتن والعداوات مع تشويه القيم الأخلاقية عند المراهقين والشباب بل وانتكاسة لكل المبادئ الإنسانية، وأيا كان الحال فالأهل لا يمكنهم التفريط بأبنائهم مهما فعلوا فالعاطفة الأمومية والأبوية فطرة طبيعية عند كل الناس وهذه العاطفة عند أهل القاتل (كبيرة) لكنها عند أهل المقتول (أكبر).
المعادلة: طلب أهل القاتل العفو (طبيعي)، رفض أهل المقتول العفو (طبيعي).
حل المعادلة: قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.
RimaRabah@