عبدالحليم البراك

سؤال النهضة!

الاثنين - 16 أكتوبر 2023

Mon - 16 Oct 2023


لا شك أن الأفراد يمرون في حالات ضعف وربما تصل إلى مستوى الانهيار التام، والأسوأ من هذا كله أن تتكالب الظروف والناس من حولهم عليهم في حالات ضعفهم، والسؤال المهم ليس كيف تم هذا؟ إذ إنه بعد وقوع الكارثة لا شيء مهم، فلا فائدة من سؤال (كيف حدث هذا؟) إلا من خلال نافذة واحدة قد تنفعك، وهي حتى لا تتكرر المأساة، لكن ما سبيل النهضة بعد الوقوع في الحفرة، وكيف تسأل نفسك ومن حولك ومن يهمهم أمرك (كيف النهوض؟) ذلك السؤال العملي الذي تتضمن إجابته كيف يمكنني الخلاص؟!
إن الإشكالية ليست على مستوى الفرد فحسب، بل هي على مستوى الفرد والمؤسسة، على مستوى الأمة والفكر كما هي على مستوى التفكير والإنسان، هي على مستوى الجانب العملي واليومي والإنتاج بنفس الوقت، وهي على مستوى الثقافة والوعي والحياة بل يمكننا القول بأن سؤال النهضة يمكن تداوله كسؤال وجودي يطرح نفسه في سياق الإنسان الذي يتطلع للنهوض أو الإنسان الذي كان شيئا ثم بات لا شيء، أو من عاش مرحلة القمة وفجأة فقدها برغم كل إمكانياته فحسرته تبدو أكثر ألما وحياته تبدو أكثر بؤسا ممن لم يعش أصلا عصرا من عصور النهضة، ولم يصل لقمة ولم يتربع عليها أصلا!
إن أصعب ما يمكن الإجابة عليه هو سؤال النهضة ليس لأنه صعب، بل لأن متغيراته كثيرة، وليس لأن المتغيرات ثابتة، بل لأنها متحركة ومتعددة وخفية وهنا تمكن الصعوبة في سؤال النهضة، ويبقى الجواب هو سر النهوض.

ولعل أول ما يمكن الإجابة عليه هو أن يكون السؤال حاضرا. إن المشكلة الأزلية في أي مشكلة هي عدم استبصارها، فمعظم من لم يسأل نفسه هذا السؤال أو من لم يرد على خاطره هذا السؤال هو عدم شعوره بالحفرة التي هو واقع فيها، يظن أنه في السماء وهو في القاع يتردى، ويظن أنه بخير والألم يحيط به من كل جانب، ويظن أنه قادر وهو مريض مقعد غير قادر في الأصل، وهذا أول سؤال في نظري من أسئلة النهضة وهو استبصار القاع الذي هو فيه.

سؤال النهضة يعني أن تنشغل هذه الأمم وهؤلاء الأفراد في مشاكلهم الداخلية قبل أن ينشغلوا في مشاكل الخارج، وأن يكونوا على علم بأن النهضة في داخل الفرد والمؤسسات عبارة عن حل مشكلتها الداخلية المتمثلة في تلك الآفة التي تأكلها من الداخل قبل أن ترمي بثقلها على المشاكل الخارجية التي تنهش فيها ولولا ضعفها لما تجرأ (الآخر) على النيل منها، إذن الجرح الداخلي هو أشد الآفات، ثم إن الإنتاج وثقافة الإنتاج والعمل هي لوازم النهضة، فأي نهضة يمكن للضجيج أن يصدره، وكيف للفقر أن يغتني والجوع أن يشبع والمرض وأن يصح مع الصراخ بهدف أن تلفت انتباه العالم نحوك، وكلنا نعلم أن الصراخ لا يغني من النهضة شيئا، وكيف يمكن لثقافة الاستهلاك أن تجعل منك قامة أو أن هذه الثقافة يمكنها أن تجعل من ميزان الأمم يميل إلى صالحها (أقصد كل موازين الاقتصاد والتنمية) وهي تستهلك أكثر مما تدخر، وتصرف أكثر مما تستثمر، وتعطي أكثر مما تأخذ، ولا شك أن ثقافة أفراد المؤسسة هو سر نجاحها فإن كان الأفراد في سبيل النجاح صارت الأمة مثلهم.

لقد نهضت أمم كثيرة لا تعد و تحصى بعد سبات عظيم، لقد عادت تلك الأمم بنفسها وبأفرادها لمستويات التألق مرة أخرى، لأنها ألحت في سؤال نفسها عن أخطائها وعن سبل تصحيحها وعن تلك الخطوات العملية التي يمكنها أن تسجل من خلالها النجاح متفوقة في اللحظة ذاتها على نفسها أولا وقبل أن تسجل أي انتصار على أمم أخرى أو أفراد آخرين!
نهضت اليابان بعد جنون الحرب العالمية الثانية برغم أن الغرب قد قلم أضافرها، ونهضت ألمانيا الخربة بعد أن دك الحلفاء كل شيء في برلين، وعادت الصين للظهور ليست على أنها أرض الخيرات المنسية والمنهوبة والمستهدفة بل كقوة اقتصادية عظمى؛ لأنها ببساطة متناهية هي واليابان وألمانيا حققت شروط النهضة في داخلها، نظام وإنتاج وثقافة وقدرات من الداخل تهزم كل حالات الضعف وانشغلت بنفسها حتى استوت على سوقها وصارت منيعة على كل من يفكر في النيل منها!
وأخيرا، أعتذر من عزيزي القارئ بأن سؤال النهضة لا يطرحه مقال ولا يجيب عليه ألف مقال، لكنها مساهمة في مشروعية السؤال أولا!



Halemalbaarrak@