جاهات قضايا الدم.. عرف اجتماعي أم «فزعة مليونية» بلا منطق؟

السبت - 14 أكتوبر 2023

Sat - 14 Oct 2023


تشكل «الجاهة» محورا أساسيا في قضايا الدم، باعتبارها موروثا اجتماعيا ثقافيا، وجزءا راسخا من تاريخ الجزيرة العربية، فيتقدم مشايخ القبيلة وكبارها إلى أصحاب الدم لطلب العفو.

ورغم حق أصحاب الدم في التنازل الطوعي أو المادي من عدمه، تمارس بعض الجاهات، ومن باب الحمية القبلية و«الفزعة»، الضغط على أهل الدم وعرض الملايين ومضايقتهم، لدفعهم إلى التنازل أو النبذ المجتمعي.

كل هذا يدفع إلى التساؤل حول بُعد وساطة هذه الجاهات في قضايا القتل العمد، وما ستخلفها من آثار سلبية في المجتمع.

حول هذا الموضوع «مكة» ترصد عددا من مشاركات الكتاب وأصحاب الرأي السعوديين.

الجاهة في قضايا الدم
«المؤكد أن الجاهة أو الجاهية موروث اجتماعي.
هناك من يرى انحسار حضورها في المجتمعات التقليدية.
الشاهد أن لها حضورا لا تنقصه السخونة في وقتنا الجاري، ولم تستبعد التحولات المجتمعية ولا تطورات الحياة هذا الحضور.
يمكن القول، إن للجاهة تاريخا قديما يروي كثيرا من القصص والروايات في مجال تفكيك الخصومات القبلية وتسديد الاختلافات.
الأمر لا ينحصر هنا بل يشمل الخلافات العائلية إلى الأسرية أيضا، تستعمل لتذليل العقبات التي تفصل العلاقات بين بعض أطراف المجتمع.
مثلا، قد تتوسع الخلافات وتمدد الخصومات دون وجود الجاهة أو الجاهية.
كما تسمى عند البعض هنا كأنها أقرب الى مجالس الصلح، وهنا الجاهة مقبولة وتزيد فاعلية إذا اتسمت بالانضباط واحترام السكينة العامة.
اما إذا تحولت أدواتها إلى ضاغطة على طرف ما، وطغا حضورها لتمييع حقوق أو الانحياز لطرف ضد آخر ولبست ثوب المبالغات والظهور والمزايدات، فإن المسافة بينها وبين غاياتها تتسع وضررها يتحقق، ولا بد من وقفة حاسمة لمواجهتها أخيرا».
- مانع اليامي

«تختلف المجتمعات في مفهوم وطريقة الجاهة، وسأتحدث عن الجاهة التي أعرفها بشكل جيّد لدى الفئة المُجتمعية التي أنتمي إليها، خاصّة في الحالات التي يكون فيها القاتل والمقتول من القبيلة نفسها.
قبل كُل شيء، يؤدي شيخ القبيلة واجب العزاء لذوي القتيل، وينصح بأهمية التزام القانون، وأن الحق لهم، وخصمهم في السجن.
بعد مضي سنتين وأكثر، يبدأ شيخ القبيلة بالتواصل مع ذوي القتيل، وإخبارهم عن زيارته لهم برفقة مجموعة من كبار ووجهاء القبيلة لطلب العفو، مذكرا إياهم بأن الصلح خير، والعفو جزاؤه عظيم عند الله، فإذا أبدى ذوو القتيل التقبّل بدأ شيخ القبيلة بالاتصال بمن سيُرافقه لزيارتهم في منزلهم وطلب العفو بشكل مُباشر، وما طلباتهم، دون أن تحدث تجمعات خارج المنزل أو إغلاق للشوارع.
أما إذا كان القتيل من قبيلة أخرى، في البداية يتجه شيخ القبيلة ومعه مجموعة من جماعة القاتل لأداء واجب العزاء، ثم بعد سنتين يتواصل شيخ القبيلة مع شيخ قبيلة القتيل، ويطلب تواصله مع ذوي القتيل لطلب العفو، وإن رفضوا فهو حقهم.
أتمنى أن تستمر الجاهة لدورها في الصلح بين الناس، ولكن من المهم دراسة وضع التجمعات التي تحدث أمام منازل ذوي القتيل».
- أحمد الظفيري

إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن
«من الجميل أن يكون لدينا موروث ثقافي يتم استحضاره من الماضي السحيق في هذا الزمن السريع المتسارع، ولكن عندما يتم توظيف هذا الموروث في غير مكانه، ولمن لا يستحقه، يصبح قبيحا ذميما.
ولعل ما تنقله مواقع التواصل الاجتماعي بين حين وآخر من «جاهة» تقوم بها شخصيات اعتبارية لقبائل عدة، لإجبار أصحاب الدم للتنازل الطوعي أو المادي عن قتلة ابنها، خير مثال على ذلك.
شخصيا قد أقبل بهذا النوع من التدخل الأسري أو القبلي عندما يكون القتل قد حصل عن طريق الخطأ، أو نتيجة حادث سير، أو بعد مشاجرة عابرة لم يتم التحضير لها، أو استخدمت فيها أدوات قتل. ولكن أن تسخّر قبيلة الجناة كل طاقتها وجاهها لجمع دية تقدر بالملايين لافتداء قتلة رفضوا الامتثال لنداء العقل والمنطق، وأصروا على ارتكاب جريمتهم في وضح النهار، على مرأى ومسمع من الكل، عندها تكون الدعوى لنصرتهم، فيها تعد على حد من حدود الله.
ولعل الحادثة التي شاهدها كثيرون، وعرفت بـ«تكفى يا سعد»، والتي غُدر فيها رجل أمن من أحد قرابته (إرهابي)، ورفض الدولة قبول التنازل عنه، وتنفيذ حد الحرابة بحقه وصلبه، خير رادع لمثل هذه الحالات.
ولعلي استحضر قول الخليفة الراشد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ عندما قال: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وبالتالي أطالب الدولة بسن قوانين تمنع هذا النوع من «الجاهة» الجاهلية، وتجرم مرتكبيها، وأن تضع حدا لهذا السفه الذي يجبر أهل الدم على التنازل عن قاتل ابنهم، أو يصبحوا منبوذين من باقي القبائل، ويستنزف أموال المستضعفين والبسطاء من أبناء قبيلة القتلة لسداد الدية عنهم، وهم لا حول لهم ولا قوة في هذه الجريمة النكراء، التي لا توجد خاتمة مناسبة لها، سوى تنفيذ حد القصاص بحق الجناة».
- موفق النويصر

وجاهة أم مفاوضات مادية؟
«الجاهة موروث فعلي اجتماعي يقوم به الوجهاء وكبار القبيلة، لحل الخلافات والعقبات التي يتعرض لها أفراد القبيلة بينهم أو بين قبائل أخرى.
تعد الجاهات من أهم العوامل والأساليب التي يسعى عن طريقها وبها في حل الخلافات والوساطات وتنازل أصحاب الدم.
ومن المعروف في عرف الجاهات أنها لا تتدخل في السعي للتنازل عن قضايا دم مخجلة، كأن يكون القاتل اعتدى على شرف المقتول، أو ما شابه ذلك من تعاطي المخدرات، ومن سقطات الأفعال. فدائما أصحاب الجاهة يتنزهون ويرتقون بأنفسهم عن السعي في مثل هذه القضايا، لأن قيمهم ومكانتهم تأبى الدخول في مثل هذه الزوايا ذات البعد الضيق والمريب.
ورغم ما كان للجاهة من أثر وتأثير، فإني أرى أنها بدأت تضعف خاصة في موضوع الدم، وذلك لما يصحب نتائجها من أرقام مليونية خيالية، كديات يطلبها أهل الدم مقابل التنازل، فهنا صحيح أنكم خلصتم سجينا من القتل بمقابل ثمن باهظ لما تعرضتم له وقمتم به من مساومة ومزايدة أصبحت أقرب للمفاوضة المادية منها للوجاهة.
وتجد من رضي لنفسه أن يكون وسيطا ماليا لإقناع أهل الدم بالقبول في الثراء الفاحش مقابل التنازل.
لتبدأ الجاهة بتغيير وجهتها من إقناع أهل الدم بالمفاوضة بعشرات الملايين لتقديم الجاهات لجمعها.
مع الأسف، هناك من الجاهات من يقوم بالإلحاح القاهر والضغط الشديد على أولياء الدم، متناسين حساسية الموقف وما يحتاجه هذا المقام».
- دخيل سليمان المحمدي

«الجاهة عادة قديمة متجددة، وهم جماعة من الناس يأخذهم الرجل معه مستعينا بالله ثم بجاههم ومكانتهم الاجتماعية، يسعون للصلح ومحاولة إنصاف صاحب الحق بتلبية طلباته في حدود المنطق. وفي الآونة الأخيرة، تدخل هذه الجاهات في قضايا الدم، وهذا أمر لا ينكر عليهم فيه والعفو والتسامح والصلح خير، ولكن الجانب السلبي لها عندما تتحول إلى متاجرة في الدم حتى تصبح مبالغ الديات باهظة، قد تتجاوز الـ60 مليونا أحيانا، وذلك لدخول وسطاء جشعين يصطادون في الماء العكر، ويبحثون عن مصلحتهم حتى وإن أوصلوا المبلغ إلى 100 مليون. والكل يعلم أن القاتل لا يدفع شيئا من هذه المبالغ الباهظة، وأن الذي يتحمل ذلك أناس لا ذنب لهم فيما أقدم عليه الجاني.
ومن هنا، فإني أرى أن توعية المجتمع بهذا الموضوع أمر مهم، وبما ورد في الشرع الحكيم، من حث على الخير وتغليب جانب ما عند الله خير مما يأخذه الولي أو من له صلة بالقتيل. ويجب أن تكون الجاهة من أجل العفو لا من أجل البيع والشراء، وتكليف الناس فوق طاقاتهم، وهذا الدور يقوم به العلماء وأهل الفكر والرأي والخطباء ووسائل الإعلام المختلفة، وأرى أن يكون هناك تنسيق لمقابلة أولياء الدم بعيدا عن الضوضاء والتجمعات التي نراها أمام منازل أهل الدم والتضييق عليهم.
ختاما، قد تفيد الجاهات المجتمع في حدود العقل والمنطق بعيدا عن المهاترات والهياط عبر قنوات التواصل».
- عبدالمطلوب مبارك البدراني

التكسب المادي وحب الظهور
«كان لكثير من الجاهات دور إيجابي في خلق روح التسامح، وتعزيز مبدأ التآزر الاجتماعي، حين كانت تقوم للتعاون على البر بعيدا عن المزيدات والاستعلاءات، والبحث عن الظهور الاجتماعي على أكتاف البسطاء.
منذ سنوات تحولت مسألة السعي في الإصلاح، خاصة في الديات، إلى مهارة في التكسب المادي الصريح، فولج الباب أسماء نكرات استغلوا مكانتهم الوظيفية، أو تدثرهم برداء الواعظ، فنشأت على أيديهم «سمسرة» الديات، والتي تحولت على إثرها الديات إلى خانة عشرات ملايين الريالات التي لهم منها نصيب الجاهة!، حتى أصبحت هناك فعاليات ومخيمات، ومناشدات، وقصائد لجمع تلك الملايين، لقد تحولت - للأسف - من العمل الإنساني المنسجم مع روح الإسلام وقيمه إلى جاهلية أخرى.
أغلقت الدولة باب جمع التبرعات بطرق عشوائية بعدما تبين لها ضرورة ضبطه بإجراءات مربوطة بإمارات المناطق، ما جعل سماسرة الديات المخضرمين يختفون عن المشهد.
ظهور وسائل التواصل الاجتماعي جعل الجاهة تأخد منحى آخر، فقد أعاد إليها بريقا جديدا، وجعل مشاهير وسفهاء التواصل الاجتماعي يهرولون إليها كمادة محتوى لحساباتهم الفارغة من الرصانة، وكي يجتذبوا المتابعين، فتبدأ المنافسة والتحديات بين هؤلاء المشاهير، كما حدث في الفترة الماضية. متكئين على إثارة النعرات القبلية، وإن كانت أحيانا من طرف خفي، ومتغنين تارة بما يهدد السلم الاجتماعي، لأن غاية البعض منهم «الترند»، دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى.
إن الخطر الحقيقي - في تقديري - أن تتحول الجاهة من صورتها الطبيعية المتسمة بالنبل، إلى مجرد محتوى يتراكض إليه المهووسون في وسائل التواصل الاجتماعي.
اليوم لم يعد هناك حاجة إلى لعب مثل هذه الأدوار، فالدولة قادرة عبر أجهزتها الرسمية إلى حل قضايا التنازل والديات، وفق تنظيمات تحفظ حقوق الجميع بعيدا عن مزايدات، وتضخيمات المهووسون في افتعال الجاهة كأداة ضاربة لحل القضايا وفرض التنازل عبر ممارسة الضغوطات الاجتماعية بصورة مؤذية ومزعجة لأصحاب الحق.
وحتما لا بد من وضع ضوابط صارمة تمنع اتخاذ الجاهة محتوى في وسائل التواصل الاجتماعي».
- ناصر الخياري