وليد الزامل

القواعد الكونية في تجلي المدينة الفاضلة

السبت - 14 أكتوبر 2023

Sat - 14 Oct 2023


قبل حوالي ربع قرن من الزمان ذهبت إلى الجامعة لحضور محاضرة مقرر «مراحل تخطيط المدن» في قسم التخطيط العمراني ويقوم بتدريس هذا المقرر الدكتور حسن قارئ.

الساعة تشير إلى الثامنة صباحا ومعظم الطلاب يشعرون بالنعاس المختلط بالملل، والبعض منهم أحضر كوب قهوة ساخن لعله يساعد في استرجاع بعض النشاط والحيوية لمواصلة بقية ذلك اليوم الشاق.

كان الاعتقاد السائد لدى معظم الطلاب أننا سوف ندرس مراحل نمو المدينة وأنماط التخطيط والإشكالات الحضرية لمدن تتكون من وحدات سكنية، وبنى تحتية، وشبكات نقل.

ولكن المقرر بالمجمل يتناول المراحل الإجرائية في تخطيط المدن وصولا لإنتاج خطة لمدينة قادرة أن تقود قوى السوق.

يعتمد المقرر في أجزاء كثيرة على الفكر الفلسفي الذي يوسع مدارك الطالب لفهم الأبعاد غير المادية في المدن.

بدأ أستاذ المقرر بسؤال فلسفي حول تعريف المدينة مستعرضا المفاهيم النظرية وقرر في النهاية تلاوة تعريف جامع للمدينة بوصفها «نظام يسير على أساس مجموعة مواد مترابطة ومعقدة، والإنسان عنصر فيه؛ بل هو بحد ذاته نظام من حيث السلوك والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية؛ كما أن المدينة هي التي يمكن من خلالها تطبيق شرع الله كنظام كامل للحياة».

ما أن انتهى قارئ من قراءة هذا التعريف حتى انبرى أحد الطلاب سريعا بالقول وماذا عن مدينة نيويورك يا دكتور فوفقا لهذا التعريف لا يمكن وصفها بالمدينة؛ لأنها ببساطة لا تحكم شرع الله؟ ساد الصمت القاعة ليس لجرأة هذا الطالب؛ بل لأن إجابته ربما تكون ضربة قاضية لهذا التعريف الوليد.

زادت الحيرة بين الطلاب وتطور النقاش المحتدم داخل القاعة ما بين مدافع ومهاجم، ثم طلبت المشاركة للرد على زميلي قائلا: وكيف عرفت أن مدينة نيويورك لا تحكم شرع الله؟ عندها ضجت القاعدة ما بين هرج ومرج وتحول الجميع للضحك الممزوج بالسخرية.

استرسلت بالحديث قائلا: القاعدة الكونية تؤكد على مقولة «الجزاء من جنس العمل» وفي الشريعة الإسلامية هناك عدة دلائل تؤكد على ذلك منها قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإِحسان). وهكذا جاءت جميع الأديان السماوية برسالة واحدة مفادها التوحيد والدعوة للخير والفضيلة والعدل والتقوى، فالخير يعكس الخير، وفي المقابل الشر يعكس الشر.

بعبارة أخرى، إذا أردت أن تستحضر الخير فاعمل الخير.

وفقا لهذا المنطق، فإن المدينة الفاضلة هي تلك التي تعكس مجتمعا فاضلا يدعو للخير، ويساعد المحتاج، ويتعاون على البر والتقوى، ويتواصى بالعدل والقيم النبيلة فمتى ما طبقت هذه المفاهيم الفاضلة يرتقي المجتمع شيئا فشيئا ليعلو بالمدينة إلى السماء.

أعجب الدكتور حسن قارئ بهذه المداخلة وأنهى الحوار بفكرة فلسفية مفادها أن المدينة الفاضلة هي «تلك التي تعزز اتصاليتها بالخالق من خلال منارات تدعو للخير».

لقد نزلت الديانات السماوية من السماء إلى الأرض وعلى المدن أن تحافظ على ديمومة الارتباط بالسماء إذا أرادت أن تستمر دورة حياتها بكفاءة.

مهما حاول الفلاسفة بناء تصور لمدينة فاضلة دون التواصل مع السماء لن يتمكنوا من ذلك، فالمدينة الفاضلة لا يمكن بناؤها؛ لأنها تتجلى.

ويظل الإنسان محدود الفكر وهو بحاجة إلى الخالق، وعليه فالتخطيط يظل محدودا كآليه للتنبؤ بالمستقبل؛ لأنه قائم على بيانات قد تتسم بالضبابية.

الزمن يسير بوتيرة متسارعة، والضبابية لا تزال موجودة؛ لأنها تتعلق بفهمنا للجانب الغيبي، وبفهمنا للإنسان والمجتمع والبيئة المحيطة، والثقافة والقيم والمعتقدات في المدن، ولكن العلم والإيمان يمكن أن يساهما معا في إزالة هذه الضبابية، وذلك بالبحث عن المواقع النورانية في المدن ليتصل سكانها بالسماء وتتجلى عندئذ المدينة الفاضلة.



waleed_zm@