هند علي الغامدي

كلنا نبكي على الحب

الاحد - 17 سبتمبر 2023

Sun - 17 Sep 2023

نستكمل في هذا الجزء من المقال الحديث الذي أثارته مقولة «إنما يبكي على الحب النساء» في جزئه الأول؛ فنتحدث هنا عن الحب، الذي هو ليس حكرا على النساء، ولا البكاء عليه خاص بهن؟ ولوكان كذلك لما صرح الفاروق - رضي الله عنه - بعدم حبه للرجل، ولا استحيا أن ينسب لنفسه شعورا يخص النساء ولا يبالي به الرجال، ولا يأسفون على فواته، والطبيعي أن يأسف الرجل، ويصرف وجهه ويغادر امتثالا لأمر عمر، وتقديرا لمشاعر الأخ المكلوم بقتل أخيه، والذي يمنعه دينه من الاقتصاص من القاتل، ويوجب عليه في الوقت نفسه إعطاءه حقوقه، ولكن الرجل رد بتلك المقولة التي تبين عدم اكتراثه، وعدم أسفه على خسارة حب الفاروق طالما أنه لن يمنعه حقوقه، وتنبئ عن نظرته الدونية إلى المرأة لما خصها بالبكاء على الحب الذي رآه عارا لا يليق بالرجال؛ وعلى كل؛ فلقد فاته حب الفاروق عمر - رضي الله عنه -، وفاته البكاء عليه، وحق لحب الفاروق أن يُبكى عليه.

وقد جاء التعبير عن الحب في القرآن الكريم في مواضع عديدة؛ بل إن الله - جل في علاه - عبر في كتابه الكريم عن نفسه بالفعل (يحب) تسع عشرة مرة، كما عبر عن نفسه بالفعل المنفي (لا يحب) ثلاثا وعشرين مرة - ولله المثل الأعلى - ويستفاد من ذلك أن (الحب) عاطفة أودعها الله في قلوب عباده رجالا ونساء، واستعملها في كتابه الكريم المرسل رحمة للعالمين أجمعين؛ فخاطبهم بما يفهمون (يحب) ترغيبا لهم في الصفات التي سبقها الفعل (يحب)، ومنها: الإحسان، والصبر، والتوبة، والتطهر، والتقوى، والتوكل على الله، والعدل، وغيرها، واستعمل الفعل (لا يحب) ترهيبا لهم من الصفات المسبوقة بالفعل المنفي، ومنها: الظلم، والكفر، والفساد، والاعتداء، والاستكبار، والاختيال، والخيانة، وغيرها، ولاشك أن غاية آمال المؤمنين حب الله لهم ورضاه عنهم، وأخوف ما يخافون خسارة هذا الحب العظيم؛ ولذلك قرن الله -سبحانه وتعالى- الطاعات بحبه، وقرن المعاصي بنفي حبه -تبارك وتعالى-.

والأسف أو البكاء على الحب هنا كناية عن قيمة حب الآخرين لدى الشخص وأهمية هذه العاطفة عنده وحزنه لفقدها؛ مما يعني أنه لا قيمة ولا أهمية لها عند الرجال حسب تلك المقولة، ولكن الواقع الإنساني كله يخالف ذلك؛ قديمه وحديثه، وأرقى مثال على ذلك مكانة الحب في حياة رسول الله العامة والخاصة، وها هو - صلى الله عليه وسلم - يجيب صحابته - رضوان الله عنهم - لما سألوه عن أحب الناس إليه، بأنها عائشة، ومن الرجال أبوها، ولو كان الحب لا مكانة له عند الرجال لما سأل عنه الصحابة، ولما أجابهم رسول الله، ولنهاهم عن هذا السؤال؛ بل إنه - صلى الله عليه وسلم - يعلي من مكانة الحب فيخبر صحابته بأن المرء يكون في الآخرة مع من أحب في الدنيا.

والخلاصة أن عاطفة الحب الإنساني لا تخص النساء فقط، وهي متسعة إلى الحد الذي يصعب على من يعانون من ضيق الأفق استيعابها خارج نطاق ما جاء في المقال المذكور، ولا يعني ذلك إنكار وجود تلك المشاعر التي سماها المقال حبا وألصقها بالنساء مع أنها لا علاقة لها بالحب وليست قاصرة على النساء، كما لا يعني الاعتراض على ما دعا إليه المقال من إحاطة المرأة بالاهتمام والرعاية والمحبة؛ بل على العكس؛ فالحاجة إلى الحب والاهتمام والتقدير حاجة إنسانية عامة يحتاجها الجميع؛ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا وشيوخا، ويترتب على نقصها كثير من الآثار السلبية على الصعيد الفردي والجماعي؛- ولكنه يعني أن من الحب ما يبكى عليه، وأن أنواع الحب السامي التي يبكي على فواتها الجميع - رجالا ونساء - كثيرة؛ فأعلاها حب الله، وحب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن فاته حب الله وحب رسوله فقد خسر نفسه، وفاته خيرا الدنيا والآخرة وسعادتهما، وحب الأنبياء جميعهم، وحب الصالحين، وحب الوالدين، وحب الإخوة، وحب الزوجين، وحب الأبناء، وحب الأصدقاء.

وأما الحب بالمفهوم الذي يقتصر على العلاقة بين المرأة والرجل؛ فمن العجيب أن القصص التي وصلتنا كانت معظمها تشير إلى حالات حب رجالية أوصلت أصحابها إلى الجنون والموت والضياع والتضحية بالنفس، وليس فقط البكاء، ومنها قصص مجنون ليلى، وقيس لبنى أو مجنونها، وكثير عزة، وجميل بثينة، وعنتر عبلة، ومغيث وبريرة، وغيرهم، ولم تكد تخلو قصيدة قديمة لشاعر مهما كان غرضها من التغزل بالحبيبة، ووصفها، والبكاء على هجرها أو نأيها وبعدها، حتى قصيدة الشاعر كعب بن زهير التي ألقاها في حضرة رسول الله معتذرا إليه لما أوعده بالقتل لم تخل من البكاء على سعاد التي فارقته وتركت قلبه متبولا متيما مأسورا! والحديث في هذا يطول حتى ليبدو أنه لا يبكي على هذا الحب إلا الرجال!