عبدالله العولقي

التكنولوجيا.. القيود الناعمة

السبت - 16 سبتمبر 2023

Sat - 16 Sep 2023

هل سنسمع قريبا عن عيادات متخصصة للعلاج من إدمان التقنية؟ لقد أصبح جهاز الجوال بتطبيقاته المتنوعة مرافقا للإنسان منذ صحوه المبكر وحتى انتهاء يومه وخلوده للنوم، أعراض مرضية بدأت تظهر على الفرد جراء هذه السلوكيات الحديثة التي طرأت على البرنامج اليومي لبني البشر، مثل: التهابات فقرات الرقبة بسبب الوضعية الخاطئة أثناء التصفح، بالإضافة إلى أمراض العيون وضعف النظر التي تزايدت أعراضها في السنوات الأخيرة، حيث تشير التقارير الصحية الأخيرة إلى ضرورة التثقيف بأهمية الصيام الرقمي والابتعاد الجزئي عن أجهزة التكنولوجيا وتقنين استعمالها.

بهذه التقنية المتطورة استطاع الإنسان أن يتحرر من قيود الجهل والتخلف، وأن يختزل الوقت بصورة مدهشة؛ فأصبح بإمكانه أن يقوم بعمليات التحويلات المالية من جهازه المحمول بدلا من الاصطفاف في طوابير المصارف البنكية، وأضحى بإمكانه أن يتسوق الملابس والأجهزة والأدوية وهو متكئ في بيته مع خدمة التوصيل إلى باب منزله، إلى آخر هذه الخدمات التي أحدثتها التكنولوجيا في حياة بني البشر، بيد أن قراءة الوجه الآخر لهذه التقنية يدق ناقوس الخطر حول إدمان الإنسان لهذه التقنية وعجزه عن التحرر من قيود سلطتها الناعمة على واقعه اليومي، بمعنى أن الإنسان أصبح مكبلا بقيود هذه التكنولوجيا، فانقطاع بث شبكة النت عن المنزل مثلا سيعكس حالة الأسرة الصعبة ومدى فوضويتها، وقد يصل الحال إلى وضع مرضي وحالة نفسية متدهورة.

تظهر خطورة التقنية عند الناشئة الصغار، فنظرة سريعة تجاه حال ناشئة اليوم تعكس مدى تعلق وارتباط الطفل بجهاز الأيباد وتطبيقات الألعاب الالكترونية وابتعاده عن أنماط السلوك الاجتماعي المتوارث، وهذه القراءة قد استوعبها مبرمجو التقنية بتوجههم نحو تدشين واقع الميتافيرس والحياة الافتراضية، هذا الواقع الذي لو نجح بصورة كاملة فقد يحدث قطيعة زمنية للإنسان مع ماضيه.

في مجال الثقافة، أصبحت الصحافة الورقية مهددة بسبب سطوة التكنولوجيا، كما أن الكتب الالكترونية بدأت تزاحم الكتب التقليدية في أعداد مبيعاتها وانتشارها بين يدي القراء، فأصبح بإمكان الجهاز المحمول أن يتحول إلى مكتبة ضخمة تحتوي على آلاف الكتب ذات الصيغة المبسطة PDF والتي لا تشغل حيزا كبيرا ضمن مساحة ذاكرة الأجهزة، وبإمكانها أن تختزل مكتبات ضخمة في ذاكرة صغيرة يحملها الفرد في جيبه.

لا تزال الأجيال المخضرمة تحن إلى الزمن الماضي، فنكهة الحبر ورائحة الورق لا تزال تلامس ذاكرتهم القريبة لكن التكنولوجيا للأسف الشديد قد فرضت سطوتها المؤلمة على واقع اليوم، لم نعد نشاهد حامل الجرائد على بوابة البقالات والمكتبات، واختفت الأكشاك الصغيرة التي تبيع الصحف اليومية والمجلات الفنية والثقافية وكتب الجيب، وأصبحت ذاكرة الإنسان بسيطة لا تستطيع حفظ الأرقام، ففي الماضي القريب كان العقل البشري يختزن بسجلات أرقام الهاتف التي تخص عائلته وأقاربه وأصدقائه وحتى أرقام الهيئات الحكومية لكنه الآن بالكاد يحفظ رقم هاتفه الشخصي!، كل هذا الحنين سيتلاشى مع الأجيال الحالية التي نشأت مع سلطة التكنولوجيا!!.

الأجيال القادمة قد لا تحتاج إلى الفحوصات الدورية للمرضى في المستشفيات، ففي الأسواق الآن توجد ساعة يد الكترونية يمكنها قياس السكر والضغط ونبضات القلب، وفي المستقبل قد تتحول هذه الساعة إلى ملف الكتروني يضم السجل الطبي للمريض!!.

خاتمة القول.. التكنولوجيا تقدم للإنسان خدمات لم يكن يحلم بها لكنها في المقابل تحدث قطيعة له مع مجتمعه وماضيه وذاكرته ومعاملاته، فهي تكبله بقيودها الناعمة دون أن يشعر أو يحس بتلك الكبول.

albakry1814@