سعد باسلوم

الإغريق والطب التكميلي

الاثنين - 11 سبتمبر 2023

Mon - 11 Sep 2023

خلال الأعوام الأخيرة عملت اليونان بشكل دؤوب على تطوير آليات واستراتيجيات ناجحة لإحداث نهضة في صناعة الطب التكميلي لديها، وقد أتت هذه الاستراتيجيات أكلها وعملت إحداث نقلة نوعية، وعلى الرغم من أنها لا تزال تخطو خطواتها الأولى التي لا تزال تتحسس بها الطريق من أجل بناء ركائز ودعائم اقتصاد الطب التكميلي الخاص بها، فقد بدأ هنالك تأثير واضح، متمثلا في ارتفاع طفيف ولكن ملحوظ في العوائد القادمة من تلك الصناعة، وقد أدى هذا إلى ارتفاع الآمال والطموحات بشأن تحويل هذا المورث الحضاري لليونان واقتصاده إلى مصدر رئيس للدخل القومي وتحويله إلى أحد ركائز ودعائم عوامل الجذب التي ترتبط باقتصاديات أخرى متشابكة تمتلكها اليونان بطبيعتها الديموغرافية وبأماكنها وجزرها الساحرة.

إن تجربة اليونان هي تجربة وليدة وحديثة النشأة بدأت تدور عجلة اقتصادها في الطب التكميلي بشكل طفيف، وهي تجربة قريبة جدا من وقتنا الحاضر ونموذجا مثيرا مليئا بالتحديات التي بالفعل تعلم وتستشرف كيفية خلق تجربة واقتصاد جديد في ظل ظروف اقتصادية خاصة ليست هي الأفضل؛ لأن اليونان أحد أكثر اقتصاديات أوروبا -إن لم يكن الأكثر- التي لا زالت تعاني من تأثيرات أزمة 2008 العالمية.

بين الماضي والحاضر
اليونان لديها تاريخ غني في نشأة الطب وقد أثرت الأسس المعرفية التي وضعها العلماء اليونانيون ونبوغهم حينها على تناقل تلك المعرفة في بقاع كثيرة من الأرض لحضارات مختلفة، أخذت منها وأضافت عليها عن طريق الترجمات في سبيل طريق المعرفة الطويل والممتد، أحد هؤلاء النوابغ هو الطبيب اليوناني أبقراط -أبو الطب الحديث- المولود في جزيرة كوس اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى الآن تستمر تعاليمه حول أهمية العلاجات الطبيعية التكميلية والنهج الشامل للصحة في التأثير على الطب الحديث، أبقراط هذا هو صاحب قسم أبي قراط الشهير الذي يقسمه كل أطباء العالم، حين ينتهون من دراستهم ويبدؤون حياتهم المهنية بهذا القسم الذى يحمل معاني الأمانة والولاء والتفاني والشرف.

في اليونان القديم، كان الشفاء يعتبر فنا مقدسا، وقد تم بناء المعابد لتكريم آلهة الشفاء، واستمر استخدام العلاجات التكميلية طوال تاريخ اليونان، ولم يكن الطب الحديث المهيمن حتى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ومع ذلك وفي السنوات الأخيرة، عاد هذا الاهتمام مرة أخرى برغبة في بناء اقتصاد كامل متمحور حول الموروث الطبي لليونان.

التجربة الناشئة
ينظر بعض المختصين إلى الطب اليوناني التكميلي على أنه لا يزال في طور النشوء ولا يمكن حتى الآن اعتبار صناعة الطب التكميلي في بلاد الإغريق صناعة منظمة، بالرغم من ذلك وعلى المستوى القومي في البلاد، فإن استخدام الطب اليوناني التكميلي منتشر في البلاد، ويستخدم العديد من اليونانيين هذه الممارسات جنبا إلى جنب مع الطب الغربي الحديث، نتيجة لهذا الوضع الذي كان قائما وبصورة أسوأ قبل أن يتم اتخاذ القرار بالتعامل الجدي مع هذه الصناعة، شرعت الحكومة اليونانية بنشاط على تعزيز تطوير الطب اليوناني التكميلي، ففي السنوات الأخيرة، طورت اليونان آليات واستراتيجيات فعالة لإحداث نهضة في صناعة الطب التكميلي، هدفت هذه الاستراتيجيات إلى زيادة الدخل القومي لليونان، وتحويل الطب التكميلي إلى مصدر رئيس للناتج المحلي، وإلى عامل جذب مرتبط باقتصاديات السياحة الترفيهية والعلاجية وغيرها من الصناعات.

إحدى الاستراتيجيات الرئيسة التي استخدمتها اليونان هي وضع إطار تنظيمي للطب التكميلي، ففي عام 2013، أصدرت الحكومة اليونانية قانونا ينظم إنتاج وتوزيع واستخدام منتجات الأدوية التكميلية، كما أنشأ القانون هيئة تنظيمية - الهيئة الوطنية للأدوية (EOF)، وهي المسؤولة عن ضمان منتجات الأدوية التكميلية التي تلبي معايير السلامة والجودة، وفي عام 2018 أصدرت وزارة الصحة اليونانية قانونا يعترف بالطب اليوناني التكميلي كممارسة طبية متميزة، وأنشأت لجنة لتعزيز تطوير هذا المجال، كما ينص القانون على تنظيم ممارسي الطب اليوناني التكميلي وإنشاء سجل للممارسين المؤهلين لترخيصهم.

أدركت اليونان إذن أنه إذا ما أرادت إحداث طفرة ما في صناعة ما، لا بد وأن تتبنى الدولة متمثلة في جهاتها الرسمية تنظيم وتطوير ومنح التسهيلات لتلك الصناعة، هذا الأمر هو الذي سيمنح الموثوقية ويعكس مدى الجدية التي تتعامل بها المؤسسات والهيئات مع الأمر والذي سيفضي إلى جودة ممارسات الطب التكميلي واكتساب ثقة المواطنون أولا وتشجعيهم على دراسة الممارسات والتي سوف يزداد الطلب عليها ومن ثم زيادة تلك المراكز المقدمة لهذه الخدمات والتي ستستهدف الوافدين أيضا، خصوصا مع استغلال عوامل طبيعة البلاد الساحرة والآثار العريقة وأيضا التوجه العام العالمي الذي بات يخدم هذه الصناعة تحديدا والصناعات التي تتوجه ناحية كوكب أكثر استدامة وخضرة، هذا التوجه إلى الممارسات الطبيعية وتقليل التعامل مع المواد الكيميائية في العلاج وأيضا استبدال المواد العضوية بمواد أكثر تسامحا مع البيئة في تقليل الانبعاثات الكربونية والمحافظة على الكوكب حين نتحدث عن الصناعات الأخرى بمختلف مناحيها.

انعكس هذا الاهتمام بذلك الجانب على زيادة ثقة المستهلك في منتجات الأدوية التكميلية والممارسات المستخدمة واكتساب شرائح جديدة من مرتادي ممارسات الطب التكميلي، ومن ثم زيادة الطلب على هذه المنتجات محليا والتسويق لها عالميا، وهذا يعطينا فكرة على أن أي ازدهار وتصدير لصناعة ما، لا بد وأن يولى العناية أولا بأبناء الوطن؛ لأنهم هم من يخلقون الزخم الحقيقي ويعكسون الصورة الحقيقة للعالم بحيث ترغب الوافدين والسياح في عيش تجربة أهل تلك البلاد.

السياحة والطب التكميلي
اليونان لديها تاريخ طويل في استخدام الطب التكميلي والبديل كجزء من نسيجها الثقافي والمجتمعي، ففي السنوات الأخيرة، أدركت الدولة الفوائد الاقتصادية المحتملة للترويج لهذه الممارسات وبذلت جهودا لجذب السياح المهتمين بالصحة والعافية، أحد الأمثلة على المنتجعات الصحية الشهيرة في اليونان هو Euphoria Retreat في Mystras، والذي يقدم مجموعة من العلاجات بما في ذلك الوخز بالإبر والأدوية العشبية والعلاج بالتدليك، حاز المنتجع على العديد من الجوائز وتم الاعتراف به كواحد من أفضل وجهات الاسترخاء العلاجي في أوروبا، وتشمل الأمثلة الأخرى معهد أبقراط الصحي في جزيرة كوس، والذي يقدم نهجا شاملا للصحة والعافية، ومنتجع Anazoe في منتجع Costa Navarino في ميسينيا، والذي يدمج ممارسات الشفاء اليونانية التقليدية في علاجاته المتنوعة، كان التركيز في اليونان ينصب على ممارسات مختلفة منها ما هو موروث حضاري للإغريق ومنها ما هو موروث من الحضارات الأخرى كالهند والصين وذلك عبر دمجه بطريقة فريدة مميزة كالعلاج المائي الذي هو شكل من أشكال العلاج الذي يتضمن استخدام الماء لعلاج المرض وتعزيز الصحة والعافية، ويمكن أن يشمل ذلك استخدام المياه الساخنة أو الباردة، وكذلك استخدام المياه الغنية بالمعادن مثل تلك الموجودة في الينابيع الساخنة الطبيعية، وتقع العديد من الينابيع الساخنة الطبيعية في اليونان في مواقع جميلة ذات مناظر خلابة.

كما يعد العلاج الغذائي وطب الأعشاب أحد أكثر الممارسات شيوعا في الطب الإغريقي، ويتضمن استخدام النباتات لعلاج الأمراض وتعزيز الصحة جانبا مهما من جوانب الطب اليوناني التكميلي ويتضمن استخدام الطعام كدواء، فوفقا للتقاليد الطبية اليونانية، تتمتع الأطعمة المختلفة بخصائص مختلفة يمكن أن تؤثر على مزاج الجسم وتعزز الصحة أو تعالج المرض، وتؤكد النظم الغذائية اليونانية التكميلية على الأطعمة الطازجة المزروعة محليا، والعديد من الأطباق اليونانية غنية بالمكونات الغنية بمضادات الأكسدة مثل زيت الزيتون والمكسرات والخضراوات.

أدى الطلب المتزايد على ممارسات الطب التكميلي أو منتجاته إلى خلق فرص عديدة للشركات في كل من صناعة الأدوية التكميلية أو المراكز والمؤسسات المٌقدمة لتلك الممارسات، فقد نلاحظ هنا أن الاستراتيجية المعلنة من قبل الحكومة تهدف إلى إشراك المواطن اليوناني وتوعيته بأهمية دوره في الترويج لموروث البلاد خارجيا وتحديدا للموروث الطبي وتوفير كل سبل الراحة للوافدين للاستمتاع وتوفير برامج سياحية علاجية تشمل في خدماتها تجربة الطب التكميلي الحديث، ويتم تسويق هذه الباقات للسياح كوسيلة لتحسين صحتهم ورفاهيتهم مع الاستمتاع بجمال البلاد الطبيعي وتراثها الثقافي.

أدركت اليونان أن السياحة الصحية هي صناعة متنامية في جميع أنحاء العالم، وقد سارعت في إدراك إمكانات الطب التكميلي في هذا القطاع، حيث نجحت في الترويج للعلاجات التكميلية وممارسات الشفاء للسياح من جميع أنحاء العالم، وطورت مجموعة من حزم السياحة الصحية التي تشمل علاجات الطب التكميلي، مثل العلاجات العشبية التي تعتبر موروثا حضاريا لها والوخز بالإبر القادم لحضارة الإغريق من الشرق والتدليك، فانعكس هذا الجهد في نجاح الترويج للطب التكميلي كعنصر رئيس في صناعة السياحة الصحية في البلاد وفي جذب الزوار إلى اليونان. على الرغم من أن هذا النمو ليس بالضخم، إلا أنه أفضل مقارنة بما كان يسبقه من سنوات التخبط، وتتوقع الحكومة ارتفاعا أكثر فأكثر في السنوات المقبلة، وبشكل عام يمكن أن يوفر الترويج للطب التكميلي وسياحة الاستشفاء فوائد اقتصادية كبيرة لليونان، مع الحفاظ أيضا على تراثها الثقافي الفريد وتعزيزه.

@SaadBaslom