هند علي الغامدي

البكاء على الحب

الاثنين - 11 سبتمبر 2023

Mon - 11 Sep 2023

لبعض الكلمات أثر من نوع ما يجعلها تبقى، قد يكون سحرا بيانيا إبداعيا، وقد يكون تعبيرا عن حوادث إنسانية تصبح بعدها مثلا يقال في المناسبات المشابهة لتلك التي قيلت فيها، وقد تكون حكمة يخلدها الزمان ويتناقلها الأجيال؛ لأنها تصبح بمثابة درس موجز يمنحه الحكيم للإنسانية، وهو خلاصة تجربته في الحياة مع هذا الموضوع أو ذاك، وقد يكون بقاؤها لموافقتها الهوى، ولا يمنع هذا التعداد من وجود أسباب أخرى لبقاء بعض الكلمات وشيوعها.

ومن تلك الكلمات التي بقيت مقولة وصلتنا عبر الروايات لشخص يكنى بأبي مريم السلولي (وقيل الحنفي) يقول فيها "إنما يأسف على الحب النساء"، وفي رواية " إنما يبكي على الحب النساء"؛ ردا على طلب الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب منه أن يصرف وجهه بعيدا عنه؛ لأنه لا يحبه ولن يحبه، وقد سبقها سؤاله: أتمنعني حقا؟، فلما نفى الفاروق ذلك، عقب الرجل بهذه المقولة، وكما تخبرنا الروايات أن هذا الرجل قتل-قبل إسلامه- زيد بن الخطاب شقيق عمر بن الخطاب؛ فمن الطبيعي ألا يحبه عمر وأن يصرح بذلك، وقد ظلت المقولة تتردد زمانا بين الناس على أن قائلها عمر بن الخطاب، ولكنها موثقة في الكامل في اللغة والأدب للمبرد لأبي مريم السلولي، وربما هذا الذي أكسبها هذه الشهرة، وبغض النظر عن صدق الروايات أو عدمه، ومن الذي قال هذه المقولة؛ فهذه المقولة تثير التساؤل عن سبب ترفع القائل عن البكاء على الحب، وهل الحب ينقص من مكانة الرجال؟ وهل هو من علامات النقص التي طالما وصمت بها المرأة من قبل بعض الذين يتجرؤون على تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستشهاد بها حسب أهوائهم، أو العنصريين الذين تسكنهم عنصرية النوع، أو أولئك الذين ورثوا بقية الجاهلية عن أسلافهم الجاهليين؟ ولكن من الأكيد أن نوع الحب المقصود فيها عام؛ أي الحب الطبيعي بين البشر؛ لأنه كان ردا على تصريح الفاروق بعدم حب الرجل، ولكن، ولسحر بعض الكلمات وموافقتها الهوى؛ فقد تم تداولها واستعمالها والاستشهاد بها في مقامات ومقالات يرى أصحابها مناسبتها لها، ومنها مقال بدأه صاحبه بالثناء على قائل المقولة، ووصفه بالصدق، ثم جعل يعدد أسباب ثنائه وتصديقه، وكانت في مجملها تدور حول ضعف المرأة، وضعف قلبها، وغلبة عاطفتها، وعدم قدرتها على التمييز والتحكم في نفسها وعواطفها، واحتمالية انجرارها إلى الرذيلة بسبب سيطرة الحب على قلبها و و و... إلى آخر ذلك الكلام الذي لا علاقة له بالحب الذي رمت إليه المقولة؛ فقد نظر صاحب المقال إلى الحب من زاوية مختلفة عن زاوية الحب في المقولة؛ ولذا جاء الحب الذي شغل المقال وخص به النساء حبا آثما تظهر فيه المرأة بلا عقل يحكمها، ولا حكمة تملكها، ولا أخلاق تهذبها، ولا تربية تردعها، ولا حياء يمنعها، ولا دين يحصنها، لا يحكمها غير عواطفها التي تسوقها إلى ذلك الحب المزعوم الذي لا ينتهي عند حد البكاء عليه بصفتها امرأة؛ بل قد يتعداه إلى مالا تحمد عقباه مما جاء في ذلك المقال.

وقد لوى ذلك المقال عنق المقولة ليصل إلى هدف كان يمكن أن يصل إليه دون الاتكاء على تلك المقولة التي لا علاقة لها بهدفه الذي لم يكن إلا وعظا للآباء والأزواج والإخوة والرجال؛ ليكونوا على حذر من إهمال إحاطة المرأة بالحب والحرص والعناية، وما يمكن أن يترتب عليه مما ذكر أعلاه، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ذلك المضمون، فإن المقال جانبه الصواب لما أتى من هذا الباب، وأكد أن الحب لا يبكي عليه إلا النساء وما تخلل ذلك من استنقاص شديد لهن، وكان يمكن أن يصل إلى مبتغاه دون أن يعمم مقولة ليست آية قرآنية ولا حديثا نبويا، وليست قانونا؛ بل ويقوم بشرحها والتعليق عليها بشكل يتناسب فقط مع زمن كانت فيه المرأة مهضومة الحقوق، مقصوصة الجناح، موسومة بالنقص، أما اليوم فلا؛ ولله الحمد والمنة.

نحن اليوم نحيا في هذا العصر الذي استردت المرأة فيه -أو كادت -حقوقها التي كفلها لها الإسلام، من مساواة الرجل في إنسانيتها، وأهليتها، وقدرتها على تحمل المسؤولية وإدارتها، وإدارة عقلها وقلبها وتفكيرها وقراراتها، هذا العصر الذي هو عصر حقوق الإنسان التي تفترض المساواة بين البشر جميعهم، هذا العصر الذي أصبحت فيه المساواة بين المرأة والرجل هدفا من أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة للوصول إلى مستقبل أفضل للعالم أجمع؛ بحيث لا يمكن الوصول إلى تحقيق المستقبل الزاهر الذي تطمح إليه دول العالم دونها؛ فكيف يمكن أن يعتمد على امرأة ناقصة الأهلية، وكيف يمكن أن تتحمل المسؤولية ويتم الوثوق بها؟ وكيف يمكن أن تشارك في مسيرة التنمية وهذه النظرة تحجم قدراتها، وتقلل من شأنها، وتعطل طاقاتها، وتقتل طموحاتها، وتأخذها من موقع الصدارة، والتمكين، والتغيير، والابتكار، والإنجاز، إلى موقع اللا شيء الذي تنتظر فيه الرجال كي يتفضلوا عليها بما ورثوه من مفهوم القوامة الذي أساء البعض استعماله؛ ليتحول من مصدر سعادة وأمان وقوة للنساء إلى مصدر شقاء.

والحقيقة أن الحديث عن المرأة في هذا المقال لم يكن مقصودا بقدر ما كان الحديث عن الحب هو المقصود، ولكن المقال الذي ظهر أثناء القراءة في تلك المقولة هو الذي استدعى ذلك الحديث؛ فبكل أسف لا يتنبه بعض الكتاب والمتصدرين للحديث عن المرأة لكلماتهم وأساليبهم في الطرح؛ فتخرج كلماتهم سما زعافا يسمم حياة النساء والرجال والمجتمع بأكمله، وتكون أساليبهم العسل الذي يدس فيه ذلك السم، وكم كانت تلك الكلمات سببا في نقيض ما تدعو إليه! بل كم كانت سببا في إيغار الصدور، وإثارة المشكلات، والإقدام على بعض التصرفات غير المسؤولة من بعضهن، وفي ردود أفعال غير متوقعة! فكما نعلم جميعا أن لكل فعل رد فعل مساويا له في القوة معاكسا له في الاتجاه، وليس المقام هنا مقام وعظ، ولكن لابد من التنبيه إلى تلك الكلمات التي تلقى هكذا بمنتهى البساطة دون التفكير في أثرها، وفي أن للكلمة قوة قد تحيي وقد تميت، وقد تكون مدمرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والتاريخ يشهد بذلك.

أما الحب؛ فله بقية من حديث في الجزء الثاني من هذا المقال.